جعفر المظفر يكتب | بين العقائدي والبراغماتيك

0

يُشترط على الأحزاب العقائدية العاملة في الميدان السياسي أن تحتفظ دائماً ببوصلةٍ وظيفتها أن تضع صيغة التعامل مع اللحظة السياسية الراهنة في خدمة مبادئها التاريخية, وهذا ما يميزها عن الأحزاب البراغماتية, ومتى ما فقدت تلك الأحزاب هذه البوصلة الهامة فهي ربما ستفلح في إحتلال موقع لها في ميدان السياسة ولكن على حساب ميدان العقيدة والأيديولوجيا. ولربما كسبت بغياب تلك البوصلة موقعة مرحلية ولكن ذلك سيأتي في الغالب على حساب معركتها ذات البعد التاريخي الإستراتيجي المتجاوز لمحدودية أفق الهيئات والآليات البراغماتية.
والحزب العقائدي, وإن جرى تصنيفه في خانة الأحزاب السياسية, إلا أنه يظل يحتفظ بأهداف ذات طابع تاريخي تلزمه أن لا يقترف خطيئة أن يكون براغماتياً بالمعنى الذي يجعله يرتكب إثم الإنسياق الكامل وراء ما يسمى بضرورات النجاح في اللحظة الراهنة والذي قد يجعله يدخل في مساحة التناقض بين ما هو مرحلي وما هو تاريخي .
ونجد على الجهة الأخرى أن الحركة السياسية ذات الأهداف المرحلية غالباً ما تعطي لنفسها الحق في اختيار ما يخدم وصولها إلى هدفها المرحلي غير معنية أبداً بحساب قيمة التناقضات التي يؤسسها ذلك مع أهدافها التاريخية ربما لغياب تلك الأهداف أساساً.
على الجهة المقابلة فإن الفكر الأيديولوجي العقائدي يرتكب أيضاً واحداً من الأخطاء الكبيرة حينما لا يعطي إهتماماً كبيراً للعمل السياسي المعرَّف هنا بفن التعامل مع اللحظة متسبباً بتحويل تلك الأفكار إلى مقدسات لا يجوز الخروج عليها, ونائما في عسل الترف النظري إلى درجة الغيبوبة ومنساقاً بشدة لكي ينازل المخيلة الإفلاطونية على مدينتها الفاضلة.
أما البراغماتية .. فيقول عنها أشهر فلاسفتها , الأمريكي (تشارلز بيرس), هي الموقف الذي يصرف النظر عن الأشياء الأولى والمبادئ، والمقولات ويتجه إلى الوقائع والنتائج. لكن تعريفاً كهذا قد يؤدي إلى وضع مفهوم البراغماتية في مواجهة الأيديولوجية, اي أنه يتعامل مقدماً مع الفكر الأيديولوجي كحالة معطلة لحرية التحقق من الأفكار الصحيحة على ضوء التجربة والأدلة العملية وقد يُكَّفِر حتى مجرد التفكير بتغيير الإسلوب أو تعديله.
وأرى أن ذلك قد يكون معقولاً في حالة الأمم التي انجزت تكوينها وأصبحت مبادؤها الأخلاقية التاريخية الرئيسة جزء من حياتها اليومية كوقائع وممارسات بات من الصعب الخروج عليها. وأعتقد أن البراغماتية والأيديولوجية هنا لا يتناقضان من حقيقة أن البراغماتية لن تهدد باي شكل من الأشكال ثبات العقيدة التاريخية بأطرها الأخلاقية العامة لأن هذه الأخيرة قد تحولت إلى مجموعة من الحقائق الحية ولم تعد تتحرك في خانة الفكر الفلسفي التنظيري. ففي الولايات المتحدة التي تتمسك بعقيدة مواطنها تشارلز بيرس ( 1839 ـ 1914) , وكذلك في حالة أغلب الأمم الأوربية, تتحرك البراغماتية في مساحة تطوير وتعديل النظريات, التي تحولت إلى حقائق, من أجل أن تكون هذه النظريات أكثر قدرة على التناغم مع معطيات الواقع المتحرك والمتغير, اي من أجل أن لا تفقد حركيتها التي تمنحها صفة الحياة, فهي لا تلغي الفكر التنظيري المتأسس على القدرات العقلية وقد تعطيه أفضلية السبق لكنها مع ذلك لا تمنحه شهادة النجاح إلا أذا أثبتت قدرته على التعاطي مع معطيات الواقع, اي أن الحالة يمكن التعبير عنها بالتلازم ما بين النظرية والتطبيق أوما بين قاعة المحاضرات وقاعة المختبرات..
على أساس ذلك أرى أن من الخطأ وضع البراغماتية في مواجهة الأيديولوجية والقول بضرورة الأخذ بأحدهما وترك الآخر. لقد قيل أن سقوط الإتحاد السوفيتي قد وضع نهاية تاريخية لعصر الأيديولوجيات مقابل انتصار ساحق للفكر البراغماتي الذي يعطي أسبقية للتجربة على الفكرة, وهذا القول نشأ كما أعتقد من إهمال العلاقة الجدلية بين طرفي هذه الثنائية, اي البراغماتية والأيديولوجية, والإعتقاد بأن أحدهما نقيض للآخر, لكني اعتقد أن هناك ثمة خطأ في إدراك أن تعثر الأيديولوجية كان سببه الأساسي ولوجها خانة التصنيم وتحولها إلى أفكار مقدسة لا يجوز التفكير بتعديل بعضها او تغيير وتبديل البعض الآخر, ولهذا أظن أن ذلك القول لم يطلق حكمه ذاك مفترضاً أن التفكير الأيديولوجي هو خطأ من حيث الفكرة أساساً, فحتى عتاة البراغماتيين لا يخرجون على الأيديولوجية بمعنى إلتزامهم بها بعد أن صارت مجموعة من الحقائق السياسية والأخلاقية ولم يعد هناك ثمة ما يدعو إلى تغييرها بعد أن زحفت من خانة التنظير إلى خانة الوقائع.
إن أشد أخطاء الفكر الأيديولوجي وطأة هو ذلك الذي يتمشهد في غياب المرونة السياسية التي تؤهله للنزول من علياء النظرية وترفها إلى حيث معطيات اللحظة الراهنة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.