جواد بولس يكتب | كان اسمه عيد الميلاد فلماذا صار اسمه الكريسماس؟
كانت الحرب على قلب فلسطين شرسة، ومحاولات سرقة “مسيحها” لم تتوقف؛ فكم حاول المستعمرون ذبحها كي تنتعش روما حينًا او القسطنطينية احيانًا، وتوالت عليها الحملات المسعورة حتى وصلنا الى ما فعله الانتدابان، البريطاني والفرنسي، من تمزيق لجغرافيا المنطقة وتطييف لأهلها وتأليبهم على بعض.
كان دور اسرائيل حاسمًا في التأثير على مكانة الكنائس المحلية وترسيم خارطة صلاحياتها، فعملت، بدهاء، على ابقاء جميعها مللاً مستقلة ومتفرقة، وساندت رعاتها الاجانب في سيطرتهم على مقدّراتها، خاصة اليونانيين الذين تلقوا دعمها المطلق وتسيّدوا بسببها على اكبر كنيسة ورعية عربية اصيلة وعريقة، فتحكموا بعنجهية مستعمر في رقاب عبادها المسالمين، وبحرية تامة في أوقافهم، كما شهدنا خلال السنين.
لم تعمل اسرائيل، لاسباب دينية وسياسية واضحة، على تطوير المواقع المسيحية الكثيرة الموجودة داخل حدودها، ولا على تسويقها كمراكز سياحية عصرية، واكتفت بدعم ما يتناسق وسياسات بعض الكنائس الغربية التي تدعم اسرائيل وممارساتها العنصرية؛ وقد نرى باهمال الناصرة، مدينة البشارة، المتعمد، أكبر دليل على هذا الاجحاف وهذه العنصرية.
لم تنفرد اسرائيل بمخططاتها بل تساوقت معها معظم رئاسات الكنائس المحلية، وشاركتها في لعبة استهدفت المحافظة على مكانة الاكليروسات الاجنبية الحاكمة وما حصلت عليها من امتيازات؛ وفي نفس الوقت تهميش مكانة الرعايا العرب وكهنتهم واخضاعهم الى حالة من الاغتراب والانتماء المشوّه.
الشواهد على ما يحدث داخل مجتمعاتنا، سواء كان في الاراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل اسرائيل، كثيرة وموجعة ومقلقة؛ ولعل آخرها كان تعميم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الصادر عن حكومة غزة قبل بضعة أيام، وموضوعه، كما جاء في عنوانه: “فعاليات الادارة العامة للوعظ والارشاد للحد من التفاعل مع الكريسماس” !
قد يكون ما يميز هذا التعميم انه صادر عن حكومة من المفروض ان تمثل جميع مواطني القطاع، بمن فيهم كمشة المسيحيين الباقية هناك؛ لكنه يبقى في الواقع، من حيث المضامين والرسالة، تعميمًا شائعًا ومألوفًا، فلقد سمعنا عن نشر مثله في مواقعنا مرارًا وتكرارًا، ومع قدوم كل عيد ميلاد.
لم يبق في غزة الا أقل من ألف مواطن فلسطيني مسيحي، وهم كعناوين طبيعية لمثل هذه الممارسات والتعميمات، ليسوا بحاجة الى هذا “التشجيع” كي يهاجروا منها، اذا ما استطاعوا الى ذلك سبيلا؛ اما اذا لم يكونوا هم العنوان، كما حاولت وزارة الاوقاف اقناعنا في تأكيد لها نشر في منشور تبريري صدر بعد قيام زوبعة الاحتجاجات على التعميم المذكور، فعندها سيكون عذرهم اقبح من ذنب.
على جميع الأحوال، لم يكن نأي كاتبي ذلك التعميم عن استعمال كلمة “الميلاد” واستبدالها في العنوان بكلمة “الكريسماس” مجرد سهوة عابرة، لأنهم يعرفون بالتأكيد ما يعنيه “الميلاد” لاهل فلسطين وما تشكله المناسبة في هويتها التاريخية والحاضرة والمستقبلية؛ وبما انهم يفقهون تلك الحقيقة جيدًا فسيكون من الصعب عدم فهم موقفهم كمحاولة لتضييق الهوامش في الحيزات العامة وتقييد حريات الافراد ومحاولة لتشويش معالم تلك الهوية، وذلك تمامًا كما فعلت جهات اجنبية واسرائيلية من قبلهم، وما زالوا يحاولون .
لا يمكن اخراج نص التعميم المذكور عن سياقات الخطاب الشائع في أدبيات وفتاوى بعض تلك الحركات، فانتقاء اسم “الكريسماس” وليس “الميلاد” يقصد منه ايضًا افهام عامة الناس على ان المحتفلين بهذه المناسبة ليسوا “منّا” وهي اصلًا مناسبة غربية دخيلة؛ وهذا في الواقع يضاف الى تمنع الكثيرين من توظيف مصطلح المسيحيين أو العرب المسيحيين، وتعمدهم اللجوء الى تسميات مقصودة مثل الفرنجة أو الصليبيين، أو الى نعتهم بالنصارى، وهي تسمية لها تفسيراتها العقائدية الملتبسة.
كم تمنينا على كل قادتنا أن يتنبهوا لهذه المخاطر وأن يقفوا في وجهها بشدة وبوضوح؛ فهوية فلسطين المسيحية الأصيلة وانتماء بعض اهلها لتلك الهوية، ليس بمعناها الديني الايماني الضيق، هما معطيان تاريخيان راسخان وضرورة المحافظة عليهما هي مصلحة وطنية عليا.