حمادة جبر يكتب | الرقمنة والخصوصية في الصين

0

زرت الصين بدعوة من “المعهد الوطني الصيني للاستراتيجية الكونية”، للمشاركة في مؤتمر “مستقبل مشترك للبشرية” الذي عقد في مدينة شنغهاي في شهر تشرين ثاني/نوفمبر 2019. عند الوصول، انتابني شعور بالضياع، فكما هو معروف، التطبيقات التي اعتدنا على استخدامها مثل فيسبوك، يوتيوب، وخدمات جوجل وغيرها ممنوعة في الصين. أما المواطنون الصينيون، فلديهم تطبيقات بديلة شبيهة بتلك التي نستخدمها، حتى أن تطبيق “تيك توك” الصيني، يوجد له نسخة خاصة بالصين. أما أشهر تلك التطبيقات، هو تطبيق “we chat”، وهو تطبيق متعدد الوظائف مثل التراسل الفوري، التواصل الاجتماعي ووسيلة للدفع. تتقدم الصين على كل دول العالم بتميزها واعتمادها على التكنولوجيا الرقمية. وقد ساعد في ذلك توجهات الحكومة الصينية الرقمية وشغف الشعب الصيني بالتكنولوجيا. ففي الصين، بالإضافة إلى التسوق من المتاجر الالكترونية عبر الانترنت الذي تقوده الصين، تتم معظم عمليات الدفع في المتاجر التقليدية الكترونياً، لدرجة أن هناك متاجر لا يمكنك الشراء منها إلا عن طريق الدفع بالموبايل كما حدث معي في إحدى المقاهي في شنغهاي. كذلك تقود الصين قطاع منصات الدفع الالكترونية وأشهرها منصتا “علي باي” التابعة لشركة علي بابا ومنصة “وي شات”.
نظام الائتمان الاجتماعي:
قام فنان صيني بإحصاء ودراسة الزوايا التي تغطيها كاميرات المراقبة المنتشرة في العاصمة بكين، وذلك لمعرفة إن كان بإمكانه تخطيها. وكانت النتيجة بأنه إذا أراد قطع مسافة كيلو متر واحد دون أن ترصده الكاميرات، عليه المشي لمدة ساعتين. فالحكومة الصينية تدعم بكل الوسائل الممكنة التوجهات الرقمية وإنترنت الأشياء، حيث أنها تعمل على إنشاء نموذج رقمي لسلوك كل فرد من خلال “نظام الائتمان الاجتماعي” الذي بدأت بتطبيقه عدة مقاطعات ومدن. يعتمد هذا النظام على تحليل البيانات الضخمة التي تغذيها الأجهزة الذكية المتصلة ببعضها البعض. أما كاميرات المراقبة، فهي كاميرات ذات قدرات خارقة، فهي تستطيع التعرف على آلاف المارين في شارع مزدحم في وقت واحد، وذلك من خلال تقنية التعرف على الوجوه. وبالرغم من أن تقنية التعرف على الوجوه تعرضت لنكسة مع بدء جائحة كورونا، حيث أدى ارتداء الكمامات إلى تعطل تلك التقنية. استطاعت الصين خلال شهر واحد من إعادة برمجة التقنية بحيث أصبحت قادرة على التعرف على الوجوه حتى مع وجود الكمامات.
يقوم النظام بمنح المواطن عدد من النقاط لكل سلوك إيجابي يقوم به، وبإمكان المواطن استبدال تلك النقاط بامتيازات أو حتى للتسوق. من السلوكيات الإيجابية التي يمنح بموجبها المواطن النقاط: دفع الضرائب بموعدها، تسديد القروض، التبرع بالدم، استخدام المواصلات العامة أو سيارات صديقة للبيئة، ممارسة الرياضة. أما السلوكيات التي يعاقب عليها المواطن فهي مثل: مخالفات السير، الحجز في مطعم وعدم الذهاب، رمي القمامة في غير مكانها أو عدم فصلها، عدم زيارة الوالدين. لا يتوقف النظام عند هذا الحد، بل إن تحليل البيانات الضخمة بالذكاء الصناعي والخوارزميات، سيكون الناظم قادراً على توقع سلوك الفرد والتصرف على أساسه. كذلك باستطاعة النظام اتخاذ قرار خلال ثواني بمنحك قرضاً أو لا. أو مثلاَ تحديد قيمة قسط تأمين السيارة أو التأمين الصحي.
الخصوصية:
لا شك أن التقدم الرقمي وإنشاء نموذج سلوك رقمي لكل فرد يتعارض مع خصوصية الأفراد. لكن في الصين، تحظى الحكومة والشركات بثقة الأغلبية الساحقة للصينيين. ففي استطلاع “إيدلمان” لمقياس الثقة في الحكومات الذي أجري في 28 دولة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث سئل المستطلعين إن كانوا يثقون بحكوماتهم، تصدرت الصين القائمة بنسبة 91%، مقابل 39% للحكومة الأمريكية و37% لحكومة روسيا. كذلك في نسبة الثقة في قطاع الأعمال والشركات، تصدرت الصين بنسبة 84%، مقابل 49% للولايات المتحدة الأمريكية و43% لروسيا.
إن طبيعة النظام السياسي في الصين القائم على نظام الحزب الواحد وتوجهاته الرقمية، والشركات العملاقة في القطاع الرقمي وشغف الشعب الصيني الكبير في التكنولوجيا، والطبقة الوسطى التي تخطت عتبة النصف مليار من أصل 1.4 مليار مواطن، مع الثقة الكبيرة في الحكومة، تجعل من الصين بيئة مثالية لمجتمع رقمي بكل مزاياه ومهما كانت عيوبه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.