د. رامي جلال يكتب | ثلاث قصص على بوابة السنة الجديدة

0

للشاعر العراقى الكبير، مظفر النواب قصيدة جميلة بعنوان «ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة»، ولأننى الآن، مثل أم كلثوم فى (فكرونى)، «نسيت الأمانى والتمنى»، فأقف على تلك البوابة لأكتب ثلاث قصص بدلا من الثلاث أمنيات، وأستئذن للدخول، بعد أن أهنئ الإخوة الأرثوذكس بعيدهم.
– (الكراسى الموسيقية).. من خلال نافذة القطار المبلل، رأيت وجهين غطاهما المطر والدموع، تشابكت الأيدى فى لحظة وداع، توحدت فيها أحاسيس الفراق قبيل تحرك القطار، صعدت هى وتركته وراحت تلاحقه بعيونها عبر نوافذ العربة، نافذة نافذة، حتى وصلت أمامى، ثم جلست فى مقعدها المجاور لى، وتلاقت عيونهما من خلال النافذة، حتى ابتعد القطار عن الرصيف.. لمحت دموعها من تحت النظارة، ثم راحت فى تأمل صوفى طويل قطعه المفتش عندما طلب منها الإطلاع على التذكرة، ثم استأذنت هى أن تقرأ جريدتى، فشجعنى هذا على أن أبادلها الحديث، كلمتنى بتحفظ عن نفسها ثم أفاضت.. قبيل طنطا كنا نتبادل الضحكات، وأرقام التليفونات.. وأنا أهم بالنزول، خطر لى خاطر، فسألتها عن صاحب الوداع الحار فى باب الحديد، فقالت: «فكك منه، ده كان قاعد جنبى فى القطر، وأنا جاية من الصعيد».
– (خميس رجب الماضى).. خميس رجب الماضى ليس اسما ثلاثيا، لكنه مناسبة تتجه فيها النساء إلى القرافة، لزيارة المقابر ، على إحدى عربات الكارو، ركبت مجموعة من النساء المتشحات بالسواد، ورحن يتجاذبن أطراف الحديث مع العربجى، كن قريباته، حملهن لزيارة زوجته المتوفاة، وأخذ يبادلهن الحديث عن مآثر المرحومة، التى عاشرها بالمعروف، عشرين عاماً.. على باب القرافة، ربط الحمار، وتأهب للدخول معهن لزيارة الغالية، لكنه تركهن يدخلن، ووعدهن باللحاق عندما لاحظ أن حماره جريح، فراح يطببه ويطمره وقلب فوقه صفيحة ماء.. أنهت النسوة الزيارة، وترحمن على الغالية زوجة العربجى قريبهن، وخرجن، فوجدنه لايزال منشغلا مع الحمار!! انهال عليه العتاب منهن، لعدم حضوره لزيارة الغالية، فقال لهن، وهو يشير إلى الحمار: «الحى أبقى م الميت».
– ⁠(القناع): كانت تجلس معى فى العربة نفسها، وقد توارت تماما خلف السواد، لم يظهر منها غير عينيها، وبالطبع لم أستطع تبين ملامحها.. الطريق طويل، والمشوار يستغرق حوالى الساعة، وعلى مدار الرحلة، ترجل الركاب واحدا تلو الآخر، ولم يبق فى النهاية سوانا.. كان السائق ينظر فى مرآته من فترة لأخرى، «ليؤمن» علينا، فالسائقون فى مثل هذه الحالات، يخشون تحول عرباتهم إلى «ملتقى العشاق».. كنت أختلس النظر إلى عينيها بين الفينة والأخرى، وقد بادلتنى نظراتى أحيانا، شعرت بأنها أرادت تبادل أطراف الحديث، إلا أن أعرافا معينة قد منعتها من ذلك.
لم تكن تصدر أى إشارات من هذا الجبل الأسود الجالس بجانبى، فقط بعض التنهدات من فترة لأخرى، ربما بفعل الحر.. كنت أعرف أن هذا السواد، يخفى خلفه ملامح رقيقة، أجبرتها الظروف على التوارى.. هذا الجسم الضئيل الجميل، وتلك العيون الزرقاء السماوية، يشيان بما تحمله صاحبتهما من نقاء وصفاء، لم يكن جسمها فائرا، لكن تولد عندى شغف لأتعرف على ما يخفيه هذا الساتر.. ثم عرفت فقد حان دورى فى النزول، فطلبت من السائق التوقف، وحين غادرت العربة، كان الهدوء يلف المكان، ولم أسمع شيئا سوى صوت السائق مخاطبا الجبل الأسود القابع فى العربة: «اجهز.. خلاص عدينا كمين الشرطة يا مدبولى».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.