ساطع هاشم يكتب | ام كلثوم بين أغاني العرب

0

هربت إلى زاوية بعيدة من المرسم وجلست على كرسي عتيق امام جهاز الايباد الجديد، وكان سطحه البلاستيكي ذو اللون الأسود متناسب جدا ولون المنضدة الخشبية التي وضعته عليها والتي تشبه جلد الثعبان
نظرت في الاعداد الكبيرة من الافلام المعروضة على صفحة -يوتوب- التي قام المعجبين بالاغاني العربية بتحميلها, وتوقفت عند مجموعة من اغاني فريد الاطرش ومحمد عبدالمطلب وفائزة احمد واخرين, ثم انتقلت الى ام كلثوم واغانيها ومنها:
دارت الايام, حسيبك للزمن, رق الحبيب، اقبل الليل وغيرها
وكانت هناك صورة بالأبيض والأسود لام كلثوم جذبتني, على غلاف احدى الاسطوانات, تضيئها أضواء المسرح من كل جانب وهي ترتدي فستان سهرة أبيض وتركت على كتفها الايسر شالا طويلا, وكانت تقف متيبسة ومستقيمة نوعما، ورأسها مائل للأعلى قليلًا نحو النور، وذراعاها مثنيتان عند المرفقين، ويداها مشدودتان في قبضتين وهي تمسك بمنديل, ولم أتمكن من رؤية قدميها، لكن بإمكاني أن أقول من وقفتها أنها لا بد أن تكون قد ثبتتهما بقوة على الأرض، كما لو كانت على سطح سفينة وهي تحافظ على توازنها على الرغم من أمواج المحيط حولها
وقفَت أمام أنظار الأضواء والكاميرات وأمام جمهور من الغرباء الذين تجمعوا لمشاهدتها، ومع ذلك بدت وكأنها وحيدة تماما, كما لو أن فعل الغناء ملأها بفرحة جامحة لدرجة أنها لم تكن تدرك أي شيء آخر حولها طوال مدة الأغنية
بدأت الموسيقى مع نغمات القانون, بشجن وبخفة راقصة، ثم انضمت إليها بعض الآلات الأخرى مثل الكمان والناي والطبلة وغيرها, فكانت هذه الالات حولها مثل حشد متحمس من الناس الذين كانوا جميعًا يتحدثون، يضحكون، يروون القصص، ولكنهم مترابطون معًا بصوت إيقاع منتظم, وفجأة وبشكل غير متوقع، وصل صوت امرأة, وقد طارت بينهم مثل الطير وأدركت أن كل الأدوات الموسيقية كانت تنتظرها للترحيب بها هي وحدها
لدهشتي عندما بدأت بالغناء كنت وكاني استمع اليها لاول مرة في حياتي، فقد بدت لي وكأنها لم تهتم بالإيقاع الذي نسجوه حولها، وظلت تسحبه وتمده, وخف صوت الالات حتى ظننت أنها فقدت تمامًا صلتها بالمطربة, ولكن عندما بدا أن الوقت قد فات، عادت الصلات مرة أخرى وصعدت الموسيقى باعلى الاصوات وامتزجت بهياج الجمهور وتصفيقهم وكلمات المشجعين من كل زوايا القاعة وهم في نشوة وغيبوبة
غنت بصوت واضح وقوي مثل البوق، وأخرجت الكلمات بذلك الصوت المتحرك الطويل:
(اشكى مش حاسأل عليك إبكى مش ح ارحم عنيك) – (لقد بكيت من أجلك، والآن حان دورك لتبكي علي)
لقد بدت قريبة جدًا ومألوفة من كل مستمعيها, كان الأمر كما لو أنها كانت تنظر الي انا ايضا مباشرة, لكنها تعني من يجلس قربي, وهي تحكي لي قصة, كيف أنها أحبت رجلاً ذات يوم، وكان قاسيًا معها وجعلها غير سعيدة, لكنها التقت بعد ذلك برجل آخر كان ألطف منه بكثير، وصارت سعيدة مرة أخرى, وفي هذه الأثناء، بدأ الرجل الذي جعلها حزينة يفتقدها، وهكذا دارت العجلة ودورتها وحان دوره في البكاء
لقد بدت شجاعة كاللبؤة، وفي نفس الوقت خائفة كالطفلة, وعند الاستماع إليها، لم يكن لدي أي إحساس بأنها كانت تشعر بالمرارة أو الاستياء، أو أنها كانت غاضبة من الرجل الذي آذاها وسعيدة لرؤيته يعاني, فقد كانت رسالتها أبسط بكثير, كانت كانما تخبرني أن الأشياء تتغير، والحياة تستمر، والضحك والدموع يتبع احدهما الاخر, واذا يتم طرحك على الأرض، فيمكنك النهوض والوقوف على قدميك مرة أخرى.
استمرت الاغاني واستمعت إلى المزيد والمزيد من القصص التي تُروى, كان هناك الكثير من الحب المتبادل والكثير من الشوق لعالم يمكن أن يعيش فيه الرجل والمرأة في سعادة دائمة, ولكن حتى الأغاني الأكثر حزنًا كانت مليئة بالامل, كما لو أن مجرد الغناء في حد ذاته يعد انتصارًا وطريقة للتعامل مع اليأس, وكانت آخر أغنية استمعت اليها هي رق الحبيب, وليس لدي أي فكرة عن عدد السنوات التي تفصل بين تسجيلات الستينات وهذا التسجيل القديم، طبعا أنها نفس المرأة التي كانت تغني، لكن صوتها تغير الان بشكل عميق, لقد فقد صوتها ذلك الاحساس الراقص والفوران، وبدلاً من ذلك شعرت أنها كانت تغني وتطرب جمهورها الواسع وحنجرتها مدفوعة بجهد واضح من الإرادة والخبرة الطويلة بتقنيات الغناء, وانها تريد القول بانها لا تزال قوية
استمع اليها هذه الايام باستمرار على أي حال بسبب تقدمي بالعمر وذكرياتي الشخصية, حتى اصبحت كلمات الأغاني وقصصها قصصي انا أيضًا وهي تعيدها وتنوع في مقامات بعض ابياتها ببراعة، وليس مرد ذلك الى اني آمنت فجأة بالعيون السود والقلوب العاشقة جدًا، أو بالعناق بجوار شمس الاصيل, لكنني مخمور بصوتها وهو يسكرني ويخدرني لبعض الوقت ويطرد مخاوفي, بينما اتذكر صورتي جالسا مع بعض الاصدقاء في مقهى ام كلثوم في ساحة الميدان وسط بغداد وكيف أذهلتني عندما سمعتها تغني لأول مرة وانا مازلت غض صغير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.