سعيد جميل تمراز يكتب | سنوات من تأميم قناة السويس (2-4)

0 266

ما قبل التأميم: على مدار الفترة الزمنية الممتدة ما بين عامي 1882 و1956م، وهي فترة احتلال انجلترا لمصر، حولت إنجلترا قناة السويس إلى أداة حربية بريطانية، وقدمت شركة قناة السويس خدمات كبيرة وفعالة لها أثناء الحروب، فكان كل منشأتها، ومكاتبها وأجهزتها وورشها في بور فؤاد، تعمل ليل نهار طوال سنوات الحرب الستة لحساب بريطانيا وباقي دول الحلفاء، ولم يغفل المحور أهمية القناة وخطورتها، وأن بريطانيا وحلفائها لم يحترموا حرية الملاحة والمرور في القناة، لذا وجه المحور عدة هجمات جوية، وأصيبت القناة بالألغام سواء كانت من جانب الطائرات أو الغواصات الألمانية. كما تعرضت أيضاً مدن القناة “بورسعيد والإسماعيلية والسويس” للغارات، وقد ترتب على ذلك تدهور حركة الملاحة في القناة، واضطرت إنجلترا إلى استعمال طريق رأس الرجاء الصالح.
وفي عام 1910م، دفعت بريطانيا شركة قناة السويس، التي صارت تحت سيطرتها الكاملة، إلى المطالبة بمد عقد امتياز استغلال القناة لفترة أربعين سنة إضافية، لينتهي العقد في 2008م، بدلًا من 1968م، وكانت حجة الشركة في هذا الطلب: أنه لتبرير التكاليف التي ستتحمّلها الشركة في توسيع القناة وتعميقها، عارضةً على الحكومة المصرية أربعة ملايين من الجنيهات لإغرائها بالموافقة.
وخلال مراحل النضال الوطني المصري من أجل الاستقلال، قامت حركات التحرر الوطني في مصر بالمطالبة بجلاء الاحتلال الإنجليزي واستعادة قناة السويس المرتبطة عضويًّا بالاحتلال، خاصةً أنه قد ثبت طوال عقودٍ الدورُ الاستعماريُّ الذي كانت تلعبه الشركة في مصر، لذلك أصبحت القناة والاحتلال مرتبطين في الوجدان الوطني على مر السنين والعقود.
أسباب تأميم قناة السويس: بعد ثلاثة أشهر فقط من قيام ثورة 23 تموز (يوليو) 1952م، قرر مجلس قيادة الثورة ومن بعد رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر إطلاق مشروع قومي يتمثل في بناء السد العالي وكان احتياج مصر لهذا المشروع كبيراً للغاية، وبحسب الإحصائيات حينذاك كان أكثر من 70 في المئة من بيوت مصر تعاني من الظلام ولم يصلها الكهرباء بالإضافة إلى احتياج مصر للطاقة الكهربائية وذلك لإنجاز المشروعات الاقتصادية كمشاريع مصانع الحديد والصلب وغيرها من المشروعات التي أرادت بها مصر أن تتحول من دولة زراعية إلى دولة صناعية.
ولم يكن احتياج مصر إلى بناء السد العالي مقتصراً على توليد الطاقة الكهربائية، وإنما كان لزيادة حجم الرقعة الزراعية أيضا مع تزايد أعداد المصريين إلى جانب إنقاذ محافظات مصر من موجات الفيضان التي كانت تهدم قرى بأكملها في موسم الفيضان.
ولكل تلك الأسباب وضعت مصر مشروع بناء السد العالي كمشروع قومي ذا أولوية بالغة، وكان المشروع من أكثر مشاريع “عبد الناصر” ومجلس قيادة الثورة طموحاً بوصفه هدفاً وطنياً، حيث يعتبر مشروع السد العالي عند أسوان أكبر مشروع يتم تنفيذه على النيل منذ أيام الفراعنة، ويعادل حجمه، وفقاً لتصميمه، حجم هرم خوفو الأكبر سبع عشرة مرة، وكان الهدف منه إطعام الشعب المصري فالسد سوف يضيف 2 مليون فدان من الأرض الزراعية الجديدة، بجانب التحكم في مياه الفيضان، وتوليد الطاقة الكهربية التي تكفي نصف استهلاك البلاد، وحاول الرئيس المصري عبد الناصر بناء السد العالي، بمساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والبنك الدولي.
وجرت المفاوضات بسرعة مصر والبنك الدولي والولايات المتحدة وبريطاني، وتم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق مؤقت في 16 ديسمبر 1955، يتولى البنك الدولي، والولايات المتحدة، معاً تمويل سد مصر بتكلفة تقديرية تبلغ 1.3 مليار دولار، وسيقدم البنك 200 مليون دولار، و200 مليون دولار أخرى ستقدمها بريطانيا وأمريكا معاً، أما باقي المبلغ فستوفره مصر بالعملة المحلية.
وفي أثناء المفاوضات طلبت لندن وواشنطن من مصر أن تركز برنامجها التنموي على السد العالي، بتحويل ثلث دخلها القومي لمدة عشر سنوات لهذا الغرض، ووضع ضوابط للحد من زيادة التضخم، مع رفض قبول أي مساعدة من الكتلة الشرقية، وأخيراً ألا تقبل مصر قروضاً أخرى أو تعقد اتفاقيات في هذا الصدد دون موافقة البنك الدولي، وغضب عبدالناصر من هذه الشروط، واستحضر أزمة مصر المالية في عهد الخديوي إسماعيل حيث مرارة الإشراف المالي الأوروبي، وجاء “يوجين بلاك” رئيس البنك الدولي إلى القاهرة ليجري محادثات مع عبدالناصر ويقنعه بقبول مطالب واشنطن ولندن، وبعد مفاوضات وافق عبدالناصر فقط على أن يكون للبنك حقوق معقولة في تفقد الإجراءات التي كان من المقرر أن تتخذها مصر لمقاومة التضخم، وعقد اتفاقاً يقدم البنك بموجبه قرضاً قيمته 200 مليون دولار، يتوقف على التوصل لاتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول شروط تقديم مساعدتهما، وتم الإعلان عن الاتفاق مع البنك في 8 شباط (فبراير) 1956م، وفي الوقت نفسه قدم “عبد الناصر” التعديلات التي يراها وفي مقدمتها تعهد بالتنفيذ حتى نهاية المشروع.
ومع بداية شهر مارس بدأ التحول واضحاً بعد إخفاق السياسة الغربية في تطويع “عبد الناصر”، ورأت لندن عدم تعاونه فيما يختص بتسوية النزاع العربي – “الإسرائيلي”، ومضى التهديد في حملات الصحافة البريطانية بوقف أي عون لمصر، لدرجة أن هناك من طالب ببناء سد في كينيا يمنع الماء عن مصر.
وأحس الرئيس عبد الناصر أنه أساء اختيار الغرب في تنفيذ المشروع، فأعلن في حديث له بجريدة الأهرام في 2 نيسان “أبريل” 1956م، أن العرض السوفيتي لتمويل المشروع مازال قائماً، وأن مصر ستنظر في أمر الموافقة عليه إذا انقطعت المفاوضات الخاصة بمساعدات الغرب، واقترحت لندن بعض الإجراءات للتضييق على مصر، فذكرت أن لديها نقصاً كبيراً في العملة الإسترلينية، ولما كانت تعتمد على الواردات البريطانية، فالنتيجة سوء الحالة الاقتصادية، أيضاً تخفيض المعونة الاقتصادية الأمريكية، كذلك العمل على خلق قلاقل لها في السودان، وأخيراً بذل قصارى الجهد لإجهاض الجهود السوفيتية وإبعاد مصر عن الكتلة الشرقية.
وفي الوقت نفسه، اتفق “جورج همفري” وزير المالية الأمريكي مع مساعد وزير الخارجية البريطاني على العمل من أجل سحب العرض الخاص بمشروع السد العالي، وبذلك توحدت السياسة الأنجلو أمريكية إزاء المشروع، وبذلك فقد الرئيس عبد الناصر الأمل في الحصول على المساعدة المالية لتمويل المشروع من الغرب، وأنه سيولي وجهه مرة أخرى شطر السوفيت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.