طلعت رضوان يكتب | الزراعة ونشأة الحضارة المصرية

0 405

لاحظتُ أنّ أغلب علماء المصريات يبدأون كتبهم بفصل تمهيدى عن نشأة الزراعة فى مصر (سواء أكانت هذه الكتب عن الفن أو الأدب أو المرأة أو القانون إلخ) لسبب بسيط هو أنّ الزراعة هى التى مهّدتْ لمُجمل الإنجاز الحضارى فى كافة المجالات. والحديث عن الزراعة لابد أنْ يبدأ بالحديث عن النيل الذى كان فى بدايته أحراش ومستنقعات فهذبه جدودنا المصرون القدماء حتى صار النيل المعروف حاليًا. فهل الشعب الذى يقوم بهذا المجهود الذى استمر مئات السنين يرتمى فى أكفان الموت أم هو شعبٌ عاشق للحياة ؟

من واقع خبرتهم الحياتية توصّل جدودنا لحقيقة علمية وهى أنّ منسوب النيل يتعرّض للانخفاض فى بعض السنوات. فكيف عالجوا هذا الانخفاض؟ قدّم الإجابة أكثر من عالم من بينهم برستد الذى كتب ((إذا جاء وقت هبوط النيل انخفض منسوب مياه النهر عن سطح الأراضى المزروعة. فتتهدّد البلاد بالعطش لبُعد مياه النيل عنها. وهذا هو السبب الذى جعل الأهالى يُقبلون على إنشاء الترع لإرواء الأراضى أيام التحاريق . ومن ذلك يتضح أنّ أراضى وادى النيل الخصبة تستحث زارعيها منذ العهد القديم على إبداء المهارة فى توزيع مياه النيل . فلا غرابة إذا لاحظنا أنّ هؤلاء برعوا فى هندسة الرى منذ أقدم العصور. ولما كانت مصر أم الفنون الآلية وجب علينا أنْ نذكر فى هذا المقام أنّ النيل كان أهم الأسباب التى أنجبتْ ذلك الفن . ولا يُخفى أنّ تاريخ هذه العصور يضم حوادث أربعة آلاف سنة أى منذ ابتداء ظهور الحضارة على سواحل البحر الأبيض المتوسط عندما كان العالم يعيش فى ظلمات الجهل والوحشية))
وكتبتْ عالمة المصريات مرجريت مرى ((تـُعد مصر فى نظر كل دارس لحضارتنا الحديثة المورد الكبير الذى نستمد منه المعلومات ، لأنه فى نطاق الحدود الضيقة لهذه البلاد احتفظتْ معظم- بل جميع- معارفنا بأصولها ، ففى مصر توجد بواكير الثقافة المادية ، من بناء وزراعة وفلاحة بساتين وطهى الطعام كفن ومبادىء العلوم من طبيعيات وفلك وطب وهندسة. ومبادىء غير الماديات من قانون وحكمة ودين . ففى كل ناحبة من نواحى الحياة كان لمصر أثرها على أوروبا))
وعن ارتباط الزراعة بالتقدم الحضارى من جهة ، والغزو الخارجى الطامع فى خيرات الزراعة من جهة ثانية، كتب عالم المصريات (ت. ج. جيمس) أنّ ((نجاح اقتصاد بلد ما مرتبط بنجاح الزراعة فيها ، وهذا يُفسر السبب فى تقدم الاقتصاد فى مصر القديمة مما عرّضها كثيرًا للغزو الخارجى.. كان انتظام الانتاج الزراعى هو أهم عناصر الاقتصاد المصرى القديم . وكان انتظام الدورة الزراعية فى مصر القديمة أوضح منه فى أى بلد آخر، فوقت الفيضان معروف ، وكميته يمكن التنبؤ بها ، وبالتالى يمكن التنبؤ بالناتج من الزراعة.. والفلاح يعيش فى بحبوحة. والذى نستقرئه من مشاهد الحياة الزراعية فى مقابر الدولة الحديثة أنّ الوضع كان لا بأس به بل كان مثاليًا)) بهذه الشهادة من عالم أوروبى يستنتج العقل الحر المُتخلص من أية أيديولوجيا أنّ الكتابات التى حرص أصحابها على الترويج لحياة العبودية والسخرة فى مصر القديمة ، ما هى إلاّ أكاذيب تـُفنـّدها لغلة العلم.
والحضارة التى يتهمها الأعداء بأنها حضارة موت ، عرفتْ الكثير من الأعياد التى يرقص ويُغنى فيها الشعب. وكان من بين هذه الاحتفالات المهرجان الذى يُقام بعد نهاية موسم الزراعة، احتفالا بإعداد الأرض لمحاصيلها القادمة. وخلال موسم الحصاد يُقام مهرجان (مينو/ أو مين) أحد آلهة الخصوبة والخضرة. وفى (أواست) عُرف أول مهرجانات العالم باسم (عيد أوبت) الذى يُقام خلال الشهر الثانى من موسم الفيضان ويتواكب مع صعود (سبدت) أى (جالبة الفيضان)
ترتب على نشأة الزراعة حتمية اختراع الأدوات التى تـُساعد الفلاح على فلاحة الأرض . وهكذا نكون إزاء متوالية تراكمية ، بدأتْ بظهور الأحراش والمستنقعات التى تحوّلتْ بفضل الجهد البشرى إلى النيل الذى نعرفه الآن. ونظرًا لخصوبة الأرض بفضل الطمى المُصاحب لمياه النيل، كانت الأرض مُهيأة للزراعة ، وهو ما فطن إليه جدودنا ، فأعطوا إهتمامهم لزراعة المحاصيل التى تـُكوّن الأساس لغذاء الإنسان . والزراعة تحتاج لأدوات فكانت التكنولوجيا فى شكلها البسيط . وبعد جنى المحصول يكون الفرح والبهجة فى شكل الرقص والغناء. ولم تكن مصادفة كثرة الأغانى الموجود فى البرديات التى تتناول الفرحة بنضوج القمح والشعير وباقى المحاصيل . ولم تكن مصادفة أنه بفضل القمح اخترع جدودنا الوسائل المادية التى تحوّله إلى دقيق مطحون ثم إلى خبز، وهذا لم يكن له أنْ يتحقق إلاّ بفضل ابتكار آلة لطحن الدقيق ثم وسيلة للطهى (الوقود الذى يوضع فى الفرن) وعن أهمية القمح كتب عالم المصريات فرانسوا دوما ((كانت الحبوب التى تنمو فى طمى النيل تـُشكل طعام المصريين الأساسى . وكان يُعد منها مختلف أنواع الخبز. ونعرف ما يقرب من 60 اسمًا للدلالة على الخبز. وكانت الأطعمة الجنائزية القديمة تذكر له 14اسمًا)) ولم تكن مصادفة أنْ يبتكر جدودنا إلهًا للقمح هو(نبر) وربة للحصاد هى (رن/ نوت)
بفضل الزراعة تدفقتْ المتوالية الحضارية ، فأبدع جدودنا أول تقويم لايزال العالم كله يعتمد عليه. وأبدعوا حضارة البناء بالحجر. وأبدعوا الكتابة وأول لغة يعتبرها علماء اللغويات أنها ((أم لغات العالم وحضارة الكتابة)) وأول منظومة للتعليم وبالتالى كانت نشأة الطب والصيدلة. وأبدعوا الموسيقى واختراع آلاتها. فهل هؤلاء البشر (أى جدودنا المصريون القدماء) مستسلمون لفلسفة الموت أم أنّ أفعالهم تؤكد أنهم انتصروا لصيرورة الحياة بالعمل على توفير مطالب الإنسان الطبيعية من مأكل وسكن وعلاج إلخ ثم إبداع كافة أشكال الفرح والبهجة من رقص وغناء ؟ سؤال أترك الإجابة عليه لأصحاب الضمائر الحية والعقول الحرة . ولم يكن الأديب الفرنسى أندريه مالرو مغاليًا عندما قال ((إنّ ما بحثتْ عنه مصر فى الموت ، هو تحديدًا القضاء على الموت . إننى باسم فرنسا أشكر مصر التى كانت أول من فكر فى الخلود)) حتى الجنة (أى حقول اليارو بالمصرى القديم) التى تخيّلها المصرى كانت عبارة عن حقول للزراعة والعمل . إذن يؤمن العقل الحر أنّ الزراعة التى أنتجتْ الحضارة المصرية ببُعدها الإنسانى ، هى حضارة قهرتْ الموت بالبهجة والعمل . وصدق الحكيم المصرى الذى كتب بردية شهيرة على لسان أوزير قال فيها يُخاطب شعبه ((أعلمكم الزراعة والكتابة والغناء)).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.