عبدالله تركماني يكتب | إدوارد سعيد ونتائج الهوية المركّبة (1)

0 524

يُعتبر إدوارد سعيد واحداً من كبار مثقفي العالم، وهو أكاديمي متميّز انتشرت شهرته في الآفاق مذ نشر كتابه المعروف ” الاستشراق ” الذي تميز بمنهجه البنيوي في تحليل ظاهرة تاريخية كبرى في تاريخ العلاقات الإنسانية، كما اشتهر بمواقفه الراديكالية من إسرائيل ووقوفه محللاً ومنتقداً جملة من المواقف السياسية للقضية الفلسطينية في عدة كتب ومقالات نشرها في أمهات الصحف العالمية، ولعلَّ أهم ما يميّزه كثرة كتاباته المتنوعة.

لقد أضاف إلى هيبة الأستاذ الجامعي قيمة المثقف ورؤيته وقدرته على الفعل، ثم تجلت شخصيته حين استطاع أن يحقق لنفسه ذلك التوازن الضروري لمن يريد أن يخاطب العالم والعصر فعلاً، بحيث يقرأ له أو يصغي إليه كلاهما باحترام واهتمام. ولأنّ إدوارد سعيد ينتمي إلى هذا الصنف من العلماء وأصحاب الاجتهادات فإنه ساجل ونافح وانتقد السلطات المستبدة كلها، من هنا مصداقيته العالية وتأثيره الهائل معاً كمثقف التزم الموضوعية دون لا مبالاة وكباحث التزم المنهج دون محاباة، وكناقد التزم القضية دون حياد. كان مثقفاً، وحلم دائما بمثقف فوق الارتباطات والمصالح والانحيازات الضيقة.
إنّ محطات حياة إدوارد سعيد شواهد صريحة على نزوعه القلق الدائم إلى الانشقاق عن المألوف، كلما تجمّد هذا المألوف وانقلب إلى قواعد دوغمائية مغلقة. لقد كان، في نشاطه الفكري والسياسي، تجسيدا لمفهوم المفكر والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي لـ ” المثقف العضوي ” المقاوم بفكره ونشاطه ” هيمنة ” السلطة الحاكمة، بمختلف أنماطها المادية والسياسية والفكرية، والتي تسيطر على المجتمع بكامله من خلال سيطرتها واحتكارها لـ ” البنية الفوقية ” الاجتماعية والسياسية.
لقد شكّل إدوارد سعيد الصورة الحضارية الثقافية للشعب الفلسطيني في أفضل رموزها: مثقف عالمي، منحاز للإنسانية وللحق الفلسطيني، لم يقع في فخ العنصرية وتعاون مع اليهود الرافضين للصهيونية، رفض كل الأصوليات العالمية التي تنشر الشك والعنف بين الحضارات، والأهم من ذلك أنه رفض أيضاً كل أشكال الفساد والاستبداد وكان من القلة النادرة من المثقفين الفلسطينيين الذين انتقدوا الإدارة السياسية والاقتصادية للقيادة الفلسطينية.
كما كان ينتمي إلى تلك القلة من المفكرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية، ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه. ذلك لأنه نموذج دائم للمثقف الذي يعيش عصره على نحو جدلي، ويدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويخضع مَلَكة التفكير لناظم معرفي ومنهجي مركزي هو النقد. إنه ناقد، ومفكر، ومنظر أدبي. وهو يساري، علماني، إنسيّ، حداثي.
وتفرض تحليلات إدوارد سعيد نوعاً من التوقير والإجلال، ذلك أنها ليست تحليلات تبسيطية شعبوية غايتها المصادرة على المطلوب، وهي تستخلص المواقف والنتائج عبر سلسلة معقدة من الاستقصاءات والحفريات، وفي عموم مشروعه النقدي لا يظهر أبداً على أنه صاحب نتائج جاهزة، وتكاد تكون إحدى أهم مهاراته المنهجية تتجلى في قدرته على التعمق في قراءة المعطيات التي يشتغل عليها، ثم استخلاص المضمرات الأساسية الكامنة خلفها. إذ ترتبط مجمل أعماله بالتيار النقدي الذي يعنى بكشف الظواهر وتحليلها وتفكيكها واستنطاقها، وهو تيار أفرزته الكشوفات المنهجية النقدية الحديثة، ولعلَّ ما يتفرد به عن المجموعة الطليعية في هذا التيار، مثل هابرماس ودريدا وتودروف والآن تورين وبورديو وغيرهم، كونه يترفع عن الاتصال العقائدي بمنهج معين منغلق، ومع أنّ اتجاهه العام في تحليل الخطاب يستند إلى ركائز عامة مدعومة بوجهة نظر فلسفية إلا أنه يوظف نتائج التحليلات اللسانية والسيميولوجية من جهة، والاجتماعية والتاريخية من جهة ثانية، ويمارس نقداً متواصلاً يهدف إلى تنقية المفاهيم الشائعة والتصورات الثابتة، ويقوده ولع في كشف آليات الالتباس بين الثقافات التي تحدثها ظروف تاريخية معينة، أو مقاصد تقوم على سوء الفهم، وأحياناً سوء النية. ويبدو نقده متحرراً من أية مرجعية ثابته، سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية، فالمرجعية التي يمكن اعتبارها الموجّه لعمله هي الممارسة النقدية الجريئة التي تتعرض لفك التداخل بين الظواهر التي يدرسها.
وفي سياق تعامله مع قضية شعبه لم يرغب في إعادة السرد الفلسطيني على غرار الرواية الصهيونية أيديولوجياً للشتات والعودة، ولكن تقديم مشروع عميق قائم على رؤية علمانية تسمح بالتعايش بين العرب واليهود في أرض واحدة. وفي سياق هذا المشروع مارس سعيد نقده لإسرائيل، متسائلاً في أكثر من مرة عن سبب استثنائها من المعيار العام الذي تتم من خلاله معاملة الدول الأخرى، ورأى أنّ السبب هو عامل ” الهولوكوست “، ومع اعترافه بهذا العامل إلا أنه انتقد استغلاله لتبرير اضطهاد وطرد الفلسطينيين، وكتب في كتابه ” سياسة الاقتلاع ” (1994): إلى متى سيتم فيه استخدام ” الهولوكوست ” و ” معاداة السامية ” كدرع يحمي إسرائيل من النقاشات والعقوبات ضد أفعالها التي تمارسها تجاه الفلسطينيين؟ وإلى متى سنظل نتجاهل أنّ صرخات أطفال غزة مرتبطة مباشرة بسياسات الحكومة الإسرائيلية ولا علاقة لها بصرخات ضحايا ” الهولوكوست “؟

ينطلق إدوار سعيد، في محاولته نسج خيوط نظرية كاملة حول مسألة الهوية، من أنه لا توجد هوية صافية، وإنما كل الهويات مركبة من عناصر مختلفة وتراثات متغايرة. فمفهوم الهوية ليس ثابتاً ولا جامداً ولا نهائياً، على عكس ما نتوهم وإنما هو حيوي، ديناميكي، يغتني باستمرار من عناصر ثقافية متجددة.
المتعدد المبدع هي صفة إدوارد سعيد الأكثر مطابقة، فهو الأمريكي الذي شاء أن يكون فلسطينياً، والفلسطيني الذي أراد أن يكون أميركياً، والناقد الأدبي الذي صاغ خطاباً سياسياً، والمثقف الناقد الذي انفتح على فنون كثيرة… وكان في هذا كله مثقفاً إنسانياً شاملاً، يرى ذاته في ” الآخر ” ويرى إلى ” الآخر ” في ذاته، دون أن يقع في التبسيط، أو يسقط في المحاكاة الفارغة.
فرادته لا تصدر عن احتضانه هوية واحدة من الهويات المتعددة التي تنطبق عليه، ولا من خلال الجمع بين هذه الهويات على وجه منفصل، واستخدام الواحدة منها أو الأخرى، تالياً، تبعاً لما يقتضيه المقام، وإنما من خلال احتضانها جميعها بما أدى إلى إرادة تكرس هوية متعددة الأبعاد لمثقف كوني، لا يعدم – في الآن نفسه – صلة وثيقة بما هو محلي وشخصي تاريخياً.
ثمة في مذكرات سعيد، كما في الكثير من مقالاته السياسية، ما يرجح الظن بأنّ مشايعة الكاتب للوطنية الفلسطينية حل لما ما انفك يتنازعه من حيرة تعدد الهويات المصطرعة، وهو حل انجلى عن إرادة أن يكون فلسطينياً. فلقد كانت هزيمة يونيو/حزيران 1967، وما تلاها من حوادث، بمثابة فرصة سانحة له لكي يحسم أمره ويعلن ولاءه السياسي للهوية الفلسطينية دون أية من الهويات الأخرى، فيما أنه يؤمن بأنّ الهوية بناء ثقافي، ومثلها في ذلك مثل أي بناء ثقافي آخر، هي إعراب عن إرادة قوة ما، فإنه رأى أنّ للمثقف إرادة واعية يمكن الإعراب عنها من خلال الدور الذي يلعبه، وهو كمثقف شاء أن يكون فلسطيني الهوية والولاء.
وربما كان من حسن حظ القضية الفلسطينية، والتفكير العقلاني بشكل عام، أنّ إشكالية الهوية لم تقد سعيد إلى التفكير الفلسفي الذي يتعالى على المشاكل اليومية والحياتية ليبذل جهده في مسائل الوجود، ويغرق في فلسفة متعالية لدينا منها الكثير، وكان من الممكن – لولا حدة وطأة المشكلة الفلسطينية – أن يربط بين منفاه المكاني والنفسي وبين الوجود ذاته.

يعرّف إدوارد سعيد المثقف بأنه ” شخص يواجه القوة بخطاب الحق “، إلا أنه يذهب إلى مناطق أكثر حساسية وصعوبة بأن يصر على أنّ وظيفة المثقف هي أن يخبر مريديه ونفسه بالحقيقة. وفي هذا السياق، تجسد أعماله ثلاث قيم جوهرية للمسؤولية الفكرية، هي: اتساع وعمق المعرفة، والصرامة البحثية، وأساس عميق من الأخلاقيات السياسية من النوع الذي يجعل المدنية ممكنة. وتتعلق هذه الفضائل بالشخصية التي تكّون وظيفة الفرد، كما أنها تحوّل أعماله إلى آثار له تقوم على فضائل هذه الشخصية وتعكسها في تجسيد الشخصية لتلك الأعمال وتشكيلها إياها. هذا بالإضافة إلى أنها تحدد شكل وبؤرة نتاج العقل وتجعل منه مشروعات، رغم تباين مفرداته واختلاف مظهرها، يمتلك تكاملاً وصدقاً يظلان بحاجة إلى أن نميّزها ونجعلها نموذجاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.