عطا درغام يكتب | إسكندرية من تاني

0

احتلت مصر بحضارتها وحكمتها وعلومها مكانة هائلة في العالم القديم، وكذلك مثلت اليونان وبلاد الإغريق بفنونها ومسرحها وأساطيرها وفلسفتها، ومن هنا امتلك المقاتل الفذ الإسكندر الأكبر(356- 323 ق م)- تلميذ أرسطو – حلم تغيير العالم، بدمج الحضارتين العظيمتين الشرقية أو الجنوبية في مصر مع الغربية أو الشمالية اليونانية معًا في حضارة واحدة يعيش في ظلها العالم بأسره؛ فتنتهي حروبه ومآسيه والتي أُطلق عليها” الحضارة الهلينيستية” أو حضارة أبناء هيلين،وتقدم الأسكندر الأكبر من مقدونيا ليبسط سيطرته علي بلاد اليونان كلها ، ويبسط سيادته علي هضبة الأناضول ثم يتجه جنوبًا إلي بلاد الشام ،ثم يدخل مصر فاتحًا ويغتبط المصريون بقدومه إذ إنهم يعانون منذ أكثر من قرنين من غزوات الفرس ووحشيتهم وهمجيتهم واحتقارهم لحضارتهم وثقافتهم وآلهتهم، بينما كان اليونانيون علي العكس يحترمون مصر والمصريون ،وينظروا إليها بكل الإعجاب والإكبار كما يبدو جليًا من خلال أدبهم كالإلياذة والأوديسة أو رحالتهم إليها كهيرودوت، وقد تتلمذ أفلاطون وغيره من فلاسفتهم وعلمائهم علي المصريين في مدينة أون القديمة وجامعتها،كما عاش مواطنوهم في ود ووئام مع المصريين في مستعمرات خاصة بهم كمدينة “نقراطيس” أو نقراش في محافظة البحيرة الحالية
لقد دخل الإسكندر مصر 322 ق م فاتحًا ، ووصل إلي منف فاستقبله كهنهتها بترحاب، ولذلك فقد احترم آلهة مصر وأخبت لها،وواصل تقدمه في مصر ليعبر الصحراء الواسعة ،ويصل إلي سيوة البعيدة التي هرب إليها خوفًا من بطش كهنة آمون وعاشوا في معبدها يمارسون طقوسهم التاريخية.
وصل الإسكندر ليطلب إلي كهنة آمون الاعتراف ابنًا للإله العظيم ليكون له شرعية حكم مصر العظيمة بعد أن يستكمل ؛ فتوجه في الشرق ويعود ليستقر فيها ملكًا علي العالم كله، وينصَّب الإسكندر فعلًا ابنًا لآمون، ويتجه شمالًا إلي ساحل البحر المتوسط، وفي مكان قرية صغيرة للصيادين تُدعي راقودة تقبع أممها جزيرة فاروس، وعلي حافة الموج وقف الإسكندر لينظر إلي السماء الصافية وصفحة الماء الفيروزية تمتد علي مرمي البصر وخلفها تقبع أرضه وأرض أجداده في شبه جزيرة البلقان.
ويستدعي قادته ومهندسيه ،ويُشير إلي الأرض التي يقف عليها قائلًا:هنا ،أريدكن أن تبنوا لي هنا عاصمة الدنيا، ويستبقي في المكان العشرات من مهندسيه ومعاوونيه ليشرعوا فورًا في تنفيذ أمر الإسكندر الذي لا تُرد أوامره.
ويرحل الإسكندر إلي الشرق حيث يسحق الفرس، و ويدمر إمبراطوريتهم ويواصل تقدمه إلي بلاد الأفغان فالهند. وعندها يعود أدراجه ويتوقف قليلًا في بابل ليموت فجأة سنة 323 ق م بأسباب مازالت تحير العلماء، ويقتسم قادته مملكته العظيمة لتقع مصر من نصيب قائده المحنك بطليموس ، الذي يسرع إلي المدينة التي أمر الإسكندر ببنائها ويجد العمل الذي يجري فيها علي قدم وساق ؛ فيطلق فيتخذها عاصمة لمملكته بعد أن يسميها باسم سيده والآمر ببنائها “الأسكندرية”، مؤسسًا دولة البطالمة(323- 30 ق م) وسرعان ماتعمَّر الإسكندرية ،ويعظم بناؤها ويتزايد عدد سكانها من مختلف الأعراق والأجناس،حتي لتصبح بالفعل عاصمة الدنيا،ويهتم حكامها من أولهم بطليموس الأول إلي آخرتهم كليوباترا السابعة العظيمة بمكتبتها الكبيرة التي تضم كل علوم وفنون عصرها والعصور الوسطي التي سبقته، ويحرص ملوكها علي شراء كل ما يمكن شراءه مهما كانت أثمانها باهظة، من الكتب واللفائف من الشرق والغرب، حتي بلغ نصيب المواطن مالم يبلغه نصيب المواطن في مكتبة بلده أي مكان من العالم حتي وقتنا هذا.
فعندما وصل عدد سكانها مائة ألف كانت مكتبتها تضم ثلاث مائة كتاب ولفافة، بواقع ثلاكتب لكل مواطن،وواصلت مكتبة الإسكندرية دورها التاريخي في زمن الرومان الذين أزالوا دولة البطالمة وزادت قيمتها التاريخية بعد أن اتخذها الرسول”مرقص” أحد تلامذة المسيح مقرًا لبشارته وأسس فيها أول كنائس مصر وإفريقية تلك الكنيسة التي دافعت عن هؤية مصر القومية في مواجهة سعي الرومان للهيمنة وطمس هويتها القومية.
وعلي الرغم من أن الإسكندرية لم تعد عاصمة البلاد بعد الفتح العربي والإسلامي علي يد عمرو بن العاص 636 الذي أسس الفسطاط لتكون عاصمة لمصر بدلًا من الإسكندرية ، إلا أن الإسكندرية حافظت علي دورها التاريخي كنافذة رئيسية لمصر في الحفاظ علي وضعها الإداري المتميز في العصور الوسطي الإسلامية، زمن المماليك والعثمانيين؛ لتعود في العصر الحديثث لتلعب دورها كواحدة من أهم مدن العالم”الكوزموبوليتانية” بعد أن فتحت أسرة محمد علي الأبواب لمختلف أجناس العالم للاستقرار والاستثمار.
وكتاب ” إسكندرية من تاني” للأستاذة سهير عبد الحميد .حكايات الأولياء والخواجات والجدعان هو كتاب فريد في بابه ؛ فهو ليس كتابًا في التاريخ ولا في الآثار ولا في السير والتراجم، ولكنه حالة من العشق والوله بالإسكندرية:المكان والتاريخ والعمارة والناس.
ويبدأ الكتاب بما يشبه السيرة الذاتية للكاتبة التي تقص بداية تعلقها بالإسكندرية عبر حكيها عن جدتها زينب، وسرعان ماتنتقل إلي قصص أولياء الله الصالحين في الإسكندرية كسيدي العجمي والقباري والشاطبي والطرطوشي وسيدي جابر وسيدي كرير والمرسي أبو العباس في أسلوب حكي فريد يمزج التاريخ بالفلكلور.
وهي لا تتوقف عند اولياء الله الصالحين المسلمين، ولكنها تواصل تأملها في سير أولياء الله المسيحيين كالقديس مرقص الرسول والقديس إستيفانو ومارمينا العجائبي.
ثم تتناول خواجات الإسكندرية منذ أسسها الإغريق وشكلوا أهم عناصر سكانها زمنًا طويلًا، وتتناول أنطونيادس وجاناكليس والكاتب الأشهر لورانس داريل عاشق الإسكندرية والذي كتب أجمل كتبه عنها ، ثم تتحدث عن الأرمن والشوام واليهود وأبرز عائلاتهم.
أما عن جدعان الإسكندرية فقد بدأت حديثها “الجدعان” وهو تعبير مصري خالص يشير إلي الأقوياء في الحق والمحبوبين من الناس في وقت واحد،وتُعتبر الفيلسوفة والفلكية وعالمة الرياضيات الشهيرة” هيباتيا” التي تحدت الغوغاء الذين اتهموها بالهرطقة،وأصرت علي ماتراه حقًا حتي قتلوها وسحلوها وسلخوا جلدها بأصداف البحر ،، ثم تتحدث عن بطولة محمد كريم في مواجهة بونابرت ثم محرم بك، وتختتم بالحديث عن تلك الشخصيات النبيلة من أسرة محمد علي ، الأمير عمر طوسون وعباس حليم.
وتذكر الكاتبة أثر كتاب”مصر من تاني” لمحمود السعدني الذي تأثرت به وفكرت في كتاب عن الإسكندرية مدينتها الأثيرة التي قضت بها جزءًا من طفولتها في بيت جدتها،لتُعيد عبر سطور هذا الكتاب قراءة تاريخ المدينة بصورة مختلفة لا تعتمد علي بغة الأرقام والتواريخ، بقدر ماتعتمد علي تقديم صورة لروح المدينة بالغوص في أعماقها السيكولوجية ،ومن واقع تجربة ذاتية وحكايات سمعتها وأشياء رأتها.
في الإسكندرية حواديت لا تنضب ،حكايات الأولياء والقديسين الذين هم في وجدان المصريين وسيلة من وسائل مجابها الظلم والظالمين والذين حلوا محل الآلهة المصرية القديمة.
وكان للسكندريين نصيب كبير من أولئك الأولياء المغاربة غالبًا، وأشهرهم رأس الأولياء المرسي أبو العباس حيث يوجد بالمدينة نحو 27 مولد تقام في شهر رمضان وحوالي 75 ضريح.
حواديت الإجريج والطلاينة واليهود..القصور المنيفة والأحياء العتيقة، حكايات البحر والمينا والفنار وزنقة الستات وبئر مسعود والترام وريا وسكينة..حكايات النبي دانيال ومقبرة الإسكندر، بحري والأنفوشي وأبي قير وغيرها من قصص سترد في بطون هذا الكتاب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.