عمرو نبيل يكتب | فلسطين .. القضية والسردية

0

مفاجأة 7 أكتوبر أين تكمن؟ في البداية كانت المفاجأة في قوة الهجوم العسكري والقدرة التكتيكية على اختراق الحصون القوية والحجم الكبير للخسائر التي تكبدها الاحتلال “الإسرائيلي”، وبخاصةً الخسائر البشرية من عدد قتلى وعدد أسرى. ثم انتقل عنصر المفاجأة إلى الخداع الاستراتيجي الذي تمت ممارسته عبر سنوات بدقة، رغم الحصار وأحدث تكنلولوجيا التجسس والمراقبة، وصولاً لساعة الصفر. غير أنه مع استمرار الحرب وبالرغم من ما قام به الاحتلال من مجازر وإبادة جماعية وتهجير واستهداف مدارس ومستشفيات وأطفال ونساء ومسنين، فإذا بالمفاجأة تتمثل في أمر أكبر وأقوى وأهم مما سبق ذكره بكثير ألا وهي مدى قوة التأثير العالمي لـ “القضية الفلسطينية”.
فبمقارنة بسيطة بين العالم ما قبل يوم 7 أكتوبر وعالم ما بعده تتضح المفاجأة الحقيقية، فقبل 7 أكتوبر كان العالم يمر بمجموعة غير مسبوقة من الأزمات والكوارث والصراعات، بداية من تداعيات جائحة كورونا، مروراً بأزمة اقتصادية طاحنة، ومنظومة اقتصادية عالمية ثبت فشلها وعجزها، خاصةً أمام تحديات المناخ والبيئة مما ينذر بكوارث، وفجوة عدم مساواة عالمية ومحلية متسعة أدت لأزمة ديمقراطية وحقوقية وصعود صاروخي لمد سياسي غربي شعبوي، ومواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وانتهائاً بحرب أوكرانية في أعقاب إعلان الصين وروسيا تحدي المنظومة الليبرالية الديمقراطية الغربية. وبعد 7 أكتوبر فإذا بكل هذه المواجهات والصراعات والأزمات والكوارث تختفي وكأنها لم تكن أمام قضية واحدة، قضية احتلت وحدها الساحة العالمية، قضية سيطرة على اهتمامات الشعوب والحكومات والمنظمات ألا وهي “القضية الفسلطينية”، وذلك بعدما ظن العالم أنها قد ماتت وأصبحت من الماضي.
فإذا بالقضية الفسلطينية تحرك الشعوب بالملايين في آسيا وأوروبا وأمريكا بل وداخل “إسرائيل” لتحتل ميادين نيويورك وواشنطن وبرلين ولندن وباريس وجاكرتا وكوالالمبور وسول وغيرها من العواصم والمدن العالمية، وتحتل رأس أولويات حكومات الغرب والشرق وتجبرها على تغيير مواقفها، وتشعل المواجهات داخل برلمانات العالم، وتحدث الانقسامات والاستقالات داخل الحكومات والإدارات والأحزاب في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا، وتصبح أكثر القضايا تأثيراً على الانتخابات الأمريكية والبريطانية، وذلك بعدما كسبت القضية ولأول مرة معركة الرأي العام العالمي بعدما فضحت وسائل التواصل الاجتماعي زيف وسائل الإعلام التقليدية وتبعيتها وأجبرتها على الاعتذار، كما كشفت زيف شعارات “حقوق الإنسان” الغربية وتسيسها وأزدواجية معاييرها.
مفاجأة 7 أكتوبر هي أن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية مقدسات دينية ولا قضية احتلال عربية وإنما أصبحت قضية عالمية بامتياز، وعالمية القضية جاءت من كونها تتقطاع مع القضايا العالمية والإنسانية التي تعاني شعوب العالم من ويلاتها، من عدم مساواة داخل المجتمعات وما حركة “حياة السود مهمة” منا ببعيد، وعدم مساواة بين الدول كشفت عن أسوأ صورها أزمة لقاحات كوفيد 19، فضلاً عن عدم مراعاة المؤسسات المالية العالمية لمعضلة ديون الدول النامية التي أرجعت التقارير الدولية جذورها إلى الاستعمار الأوروبي، وهو ذات الاستعمار الذي منح ما لا يملك لمن لا يستحق بوعد بلفور الذي قدم فلسطين للاحتلال “الإسرائيلي”، وأيضاً تناقض المواقف الغربية بين حرب أوكرانيا والحرب في غزة، كل هذه التقاطعات مثلت نقاط تماس بين القضية الفلسطينية والقضايا عالمية.
إن هذا التحول المصيري لمسار القضية الفلسطينية إنما يتطلب إعادة النظر لسردية القضية.. فالطالما كانت السردية الصهيونية سر قوة الاحتلال “الإسرائيلي”، التي مكنته من كسب تأييد الرأي العام الغربي وبالتالي حكوماته ودعمها المطلق للاحتلال عسكرياً وتكنولوجياً ومالياً وسياسياً، لذا يعد التحول الحالي في الرأي العام الغربي في ظل الأزمات الاقتصادية والمجتمعية والسياسية التي تعاني منها المجتمعات الغربية فرصة تاريخية يتطلب حسن استغلالها بلورة سردية عالمية للقضية الفلسطينية، فإذا كانت هذه هي قوة القضية فماذا لو ارتقت السردية لمستوى القضية؟ وإذا كانت أقوى نقاط تماس القضية الفسلطينية إنما هي مع أمن الدولة المصرية، فإن بلورة مثل هذه السردية العالمية تكون مهمة أمن قومي مصرية لحماية القضية العالمية من الأجندات الإقليمية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.