كلكامش نبيل يكتب | اللغة الموحدة أكبر محددات الهوية القومية (2-2)

0 312

عندما تذوب اللغات الموحدة، تتشتت الشعوب وتتباعد، وهذا ما حصل للغات الرومانسية بعد انحسار أصلها اللاتيني، فأصبح واجبًا عليك تعلم الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والرومانية والإيطالية وغيرها، بعد أن كانت اللاتينية تفي بالغرض في سائر هذه البلاد.

الغريب أن دُعاة العولمة وتقارب الشعوب في الدول العربية هم أكثر من يكره الفصحى ويحاول التخلي عنها، في حين أنه سيتقبل فكرة مثل إحياء لغة قديمة بأبجديات غير عملية – وبعيدة عن الواقع التكنولوجي والفكري اليوم – أو استخدام لهجات محلية بحجة السهولة – غير مدرك أن تحويلها إلى لغة رسمية سيحتم توحيدها ووضع قواعد لها وقواميس ومعاجم وطرق إملاء ثابتة وهو ما يحاول الهرب منه بسبب كسله وضعفه اللغوي. وفي الوقت نفسه سيتقبل فكرة استخدام لغة الإسبرانتو، وهي لغة مصطنعة وضعها لودفيغ أليعزر زامنهوف كمشروع لغة اتصال دولية سهلة في عام 1887، ولكنها في الواقع أقرب للغات اللاتينية والأوروبية ولا تمثل لغة عالمية، ومن شأن مثل هذه المشاريع القضاء على التنوع الثقافي واللغوي في العالم. مع ذلك، سيتقبل كارهو الفصحى هذه اللغة أو اللهجات بدون وعي لكونهم يناقضون أنفسهم، وقد كنتُ منهم حتى العام 2020، في تبني دعوات التقارب العالمي والقطرية الضيقة في الوقت ذاته.

وجود اللغة الفصحى يجعل العربية، الخزان الأكبر للغات السامية اليوم، لغة مقبولة للخطاب والنشر في المحافل الدولية والأمم المتحدة، ويسهل عملية الترجمة، الضعيفة أصلا في دولنا، فبدل أن تترجم إلى الدارجة المغاربية أو المصرية، ستترجم إلى الفصحى وتبيع كتابك المفهوم في 22 دولة.

اللغة قوة ثقافية، ولا يوجد شخص عاقل يرغب في أن تتراجع لغته، ولهذا السبب يجن جنون فرنسا عندما تسمع بمشاريع وتوجهات التخلي عن الفرنسية في الجزائر وغيرها من دول شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، ولهذا السبب أقيمت أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي للناطقين بالفرنسية في كندا. بدون هذا التوسع يصبح عدد الناطقين بالفرنسية 76.8 مليون نسمة (أي أن هذا يضعها في مستوى اللغتين التركية والفارسية على سبيل المثال وتفقد مكانتها الدولية)، بينما يتحدث الفرنسية اليوم 321 مليون نسمة وهي اللغة الرسمية في 29 دولة. لن تقبل فرنسا بمثل هذا التراجع، ولكن كارهي الفصحى يرحبون بذلك بكل سذاجة، ويريدون حذف لغة توحد المنطقة منذ أكثر من ألف عام، بينما لم تكن الفرنسية توحد حتى سكان فرنسا الحالية حتى أواخر القرن الثامن عشر. وينطبق ذات الشيء على الإسبانية والإنجليزية المنتشرة حول العالم كلغات ثانية، وكيف يحقق هذا الانتشار الكثير من المزايا للغة والثقافة المرتبطة بها، والناطقين بها، ويجعلها تنتشر ويقبل الناس على تعلمها والنشر والكتابة بها، وهذا ما يمنحها أهمية سياسية وثقافية منقطعة النظير.

كناطقين باللغات السامية، نفتخر بأن الأكدية كانت لغة التواصل بين الحثيين والمصريين في مراسلات تل العمارنة، لأن هذا يعني أنها كانت لغة دولية، ونفتخر بانتشار الآرامية حتى حدود الصين والهند واعتمادها لغة رسمية في بلاط الأخمينيين والساسانيين، وبالطبع يجب أن نسعد بأن العربية – شقيقة هذه اللغات – قد بنت أكبر امبراطورية سامية/ جزرية في تاريخ هذه الشعوب.

بالفعل، كانت العربية ذات يوم لغة العلوم، وبها حفظت مخطوطات فلاسفة الإغريق القدماء لأن الأصل قد ضاع ونقلت أوروبا الفلسفة من جديد عن طريق الترجمات العربية والتعليقات عليها، وهناك ما لا يقل عن 210 نجم يمكن رؤيته بالعين المجردة يحمل أسماء عربية أو مشتقة من العربية حتى يومنا هذا، فضلاً عن تأثير هذه اللغة الكبير في اللغات الإسبانية والبرتغالية والمالطية (وهذه تعتبر لهجة عربية مخلوطة باللاتينية في نظر بعض علماء اللغويات) والتركية والفارسية وغيرها.

اللغة هي المحدد الأهم لأي مجموعة ثقافية، وما الذي سنجنيه من تدمير لغة توحد مجموعات أكبر من البشر Lingua Franca، حيث أن العربية واحدة من سبع لغات تعد اللغات الرسمية في 75% من العالم؟ سؤالٌ مهم بحق، والجواب لا شيء سوى تحويل لهجاتنا – غير الموحدة أصلا في أصغر البلدان العربية – الى لغات صغيرة لا أهمية لها، فنزداد عزلة وتخلفا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.