ماهر عزيز بدروس يكتب | الأب -متي المسكين- بين التشويه والتكريم (2)
لقد أَمْسَكْتُ بمجلة الكرازة التي تصدر عن المقر البابوي أيام احتدمت على الأب “متي المسكين” حرب الاتهام بالهرطقة. أقول أَمْسَكْتُ بمجلة الكرازة لأتمعن أحد مقالات القذف بالهرطقة اللاهوتية للأب “متي المسكين”، فوجدت أن ما يربو على 95% منها لا تزيد على كونها مماحكات لفظية، و5% الباقية هي محاولات الأب “المسكين” للتجديد اللاهوتي، فأغلقوا عليه الفخ!!
لكن الذين عاصروا الأحداث السياسية التي مرت بها مصر في السنوات الأخيرة للرئيس السادات، يدركون أن “العقرة اللاهوتية” التي عقروا بها الأب “متي المسكين” ربما تعود في الأصل إلى “العقرة السياسية” التي ظنوا أنه قد جَرَحَهُم بها، وهو منها براء!
أراد الرئيس السادات وجهًا وجيهًا في الإكليروس القبطي يتعامل معه بديلًا لبابا القبط الذي زج به في الإقامة المحددة آنذاك بأحد الأديرة على سبيل الاعتقال، ووجد في الأب “متي المسكين” ضالته المنشودة.. لكن الأب “المسكين” كان أمينًا للبابا وللكنيسة، فأفهم رئيس البلاد أن البابا لا يمكن لأحد من الإكليروس أن يحل محله أو يقوم مقامه، مهما كانت الظروف، طالما هو حَيُّ على رأس الكنيسة، واقترح عليه مجلسًا من خمسة أساقفة لإدارة شئون الكنيسة في غيبة البابا لا يكون “المسكين” نفسه واحدًا منهم، وهو ما أخذ به الرئيس السادات. لكنهم أحكموا ظنونهم الفقيرة حول شخص الأب “المسكين”، متهمين إياه بالتقرب إلي رئيس البلاد على حساب شخص البابا، وبأنه قد عقرهم “عقرة سياسية” راحوا ينتقمون منه بعدها بأن عقروه “عقرتهم اللاهوتية”، رغم شهادة الكثيرين حينها بأن اقتراب الأب “المسكين” من رئيس البلاد قد أعفي الكنيسة والشعب القبطي الكثير من الويلات.
بين الواقع والأسطورة: التهويل والتهوين، عاش الأب “متي المسكين” رجلًا طبيعيًا مسيحيًا ملتزمًا يحاول أن يجتهد في محيطه برسالة الحداثة والاستنارة الروحية، واجتهد بالأكثر في جعل رؤاه الفكرية والروحية تتجسد في الواقع ونفس الأمر. كان يري في نفسه صاحب رسالة محملًا بواجب مهم عليه أن ينفذه في الواقع الكنسي الذي ينتظر النهضة. فجدد في الرهبنة بديره على مثال التجارب التاريخية الأولي التي عكست مجد المدرسة اللاهوتية بأيدي اللاهوتيين الكبار أمثال أوريجانوس وإكليمنضس السكندري، مرتكزًا على أسس البحث والدرس والفاعلية الفكرية والروحية، فطبع الرهبنة في دير أبي مقار بطابعه المجدد.
صَدَرَ في ذلك عن رؤيا تجديدية للرهبنة القبطية، تخرجها من الأمراض المزمنة التي تحالفت عليها عبر التاريخ، والتي لم تدم طويلًا للأسف بفعل التربص العدائي تجاهه من قِبَل أقطاب الكنيسة، الذين استشعروا خطرًا عليهم من جراء محاولته التجددية، فعمدوا إلى تخريب تجربته وتشويهها، بزرع شيطاني في ديره، ببعض لاعبي الرهبنة التقليدية، فنخروا بأمراضها المزمنة عظام التجددية بالدير العتيد!!
لقد قادته تجربته في تجديد الرهبنة القبطية في دير أبي مقار إلى تجربته الثرية في التجديد اللاهوتي القائم على البحث والدرس والتأصيل العلمي للفكر الديني، مستعينًا في ذلك بمدرسته الفكرية اللاهوتية ذاتها التي أراد أن يطبع بها الحياة الديرية في دير أبي مقار. لكنه كرجل طبيعي كانت له كذلك بعض الأخطاء المنهجية والإدارية.
أما أن تدور ماكينة التعظيم الرهيبة فتظل تدور وتدور حتى ترفعه إلى القداسة التي تتصاغر أمامها كل النفوس، فيبدأ صنع الأسطورة الشعبوية التي يصير بمقتضاها الشخص الطبيعي شخصًا خياليًا لا يمكن أن يدركه عقل بشر لمجرد انخراطه في الرهبنة، فذلك هو بعينه الجنون الذي عمل في الكثيرين منذ ألفي سنة مضت حتى اليوم. وهو الجنون الذي آن له أن ينتهي الآن وإلى الأبد وإلى غير رجعة!
على أن المقادير الحسنة في عصرنا الراهن، التي أَلَمَّت بنا على رؤوس كل الأشهاد، قد أشهدتنا كذلك على الكيفية التي تتم بها صناعة أسطورة القداسة حول أناس عاديين عاشوا بيننا.
لكن الأب “متي المسكين” الجليل سيبقي له مجده المحفوظ على التاريخ، بأنه المفكر المجدد في الكنيسة القبطية، واللاهوتي الأرثوذكسي المجتهد صاحب التنبيه الفاعل للعقل القبطي المعاصر من غفلته، التي طالت ردحًا كبيرًا من الزمن، وسفير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى كنائس العالم قاطبة بكتاباته المترجمة إلى لغات الأرض الحية في معاهد وكليات اللاهوت. والراهب الذي ترك للرهبنة تجربته الواعية الواقعية لعهد جديد قد تتطهر فيه من كل ما علق بها منذ تأسست حتى اليوم من مثالب وأوجاع.
إن أعظم تكريم للأب “متي المسكين” هو الاحتفاظ به رجلًا طبيعيًا أمينًا في الاجتهاد لأجل الله والكنيسة، بعيدًا عن الاتهام بالقداسة التي تخلعه من عالم البشر الرواد إلي عالم الافتراء على اللـه.