أحمد شحيمط يكتب | الجابري وقضية حقوق الإنسان (2)

0 376

يقرأ الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في الخلفية التاريخية لحقوق الإنسان بالعودة للقرنين السابع عشر والثامن عشر، الدين الطبيعي القائم على أشياء أن هناك إله وهناك حياة أخرى، إله يطلب من الناس إطاعة إرادته، وهنا يعثر الجابري على فكرة مشابهة في الإسلام وهي حقوق الله وحقوق الناس، كما يرغب الجابري في نقد الآراء التي تعتبر أن حقوق الإنسان صادرة من العلمانية، وحقوق الإنسان في الإسلام صادرة من الدين، بمعنى أن الأسس النظرية والخلفية المرجعية ترسم خطوطا فاصلة بين الخصوصية والكونية، بين عالمية الحقوق في الغرب وعالمية الحقوق في الإسلام، حقوق الإنسان كفلسفة لا بد أن تعتبر الإنسان مواطنا كامل المواطنة بقطع النظر عن الجنس والدين واللغة والعرق، إنها فلسفة في تذويب التناقضات، والتمييز بين المجال الخاص والمجال العالم، والتمييز بين مجال العقل ومجال الوحي. فالجابري كعادته لا يركن نحو الاستسلام والقول بالفكر الواحد، بل يعود للتاريخ ويتتبع الخلفية الفكرية لحقوق الإنسان، يعتبر أن هذه الحقوق ليست منفصلة عن الدين، إنها حقوق منفصلة عن سلطته الكنيسة وخطاب رجال الدين، يعني الاستغناء عن سلطة الكنيسة وهيمتها على الحياة، واثبات معقولية المسيحية دون دعوة الناس للتنصل من قيمهم، حق الملوك الإلهي الذي يعطي الصلاحية المطلقة للحاكم دون الخروج عليه أو اعتراض قراراته، هذا النوع من الحق لم يقبله الفلاسفة وخصوصا جون لوك لأنه من رواسب الحكم الخاص بالعصور الوسطى، وما يجعل هذه المفاهيم والأسس غائبة في ثقافتنا هو عدم حضور الديمقراطية كفكر وممارسة، دلائل الغياب في التداول السلمي للسلطة والحرية الفردية وغياب فلسفة حقوق الإنسان، هذه الحقوق الكونية والشمولية من منظور الغرب نابعة من التطابق بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي، مبنية على الحق الطبيعي وصيانة الإنسان في حياته والحفاظ على ممتلكاته، حالة الطبيعة وهيمنة القوة المفرطة والنزوع نحو العنف تعني بداية النهاية للتفكير في مبادئ جديدة ترسي السلام وتؤمن الحياة الطبيعية والمدنية للفرد والمجتمع بدون خوف أو توجس، حالة الطبيعة والعقد الاجتماعي والدولة المدنية مفاهيم جديدة في الحقل السياسي والاجتماعي في الفكر الغربي، وبذلك يعتبر الجابري أن الأولوية القصوى هي تحقيق الديمقراطية في بعدها السياسي والاجتماعي معا .
إن الديمقراطية ضرورة لا تحتاج التأخير أو التأجيل بقناعة الشعب وإرادة الحاكم ، عندما يرسي الشعب لذاته مؤسسات منتخبة، ويضع منتخبين ذوي كفاءات في خدمة الصالح العام، بحيث تتغلغل هذه الفلسفة في السلوك والعمل السياسي. فالجابري يطابق نوعا ما بين المفاهيم الغربية وما يدعو إليه الدين في مسألة حفظ الحياة وصيانة كرامة الإنسان وتكريمه، إضافة للتأمل في نظام الطبيعة، إذ جعل الله نظام الطبيعة والعقل متساوقان، لكن الجابري غالبا ما يحتاط من إسقاط الحاضر على الماضي، هاجسه الأساسي التماس الأفكار ومحاولة فهم أبعاد حقوق الإنسان ونقطة الالتقاء بين الكوني والخصوصي، حالة الطبيعة في الفكر الغربي يقابلها حالة الفطرة في الخطاب الإسلامي، والعقد الاجتماعي تقابله الشورى، والعدل قرين المساواة . فماذا يريد الجابري من هذه المقارنة ؟
إن المرتكزات النظرية في فلسفة حقوق الإنسان ساهمت في إرساء معالم المجتمع الجديد، البديل عن هيمنة حالة الطبيعة، والبديل عن سلطة الكنيسة ورجال الدين، من شرعية الحقوق ومصداقيتها في الغرب جاء الإعلان الفرنسي 1789 والإعلان الأمريكي 1776، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، وما يتعلق كذلك بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966، ولا يخفي الجابري توظيف حقوق الإنسان من قبل الغرب لأغراض أيديولوجية ونفعية، كذلك لا ينفي حاجتنا لاستنبات هذه الحقوق وتأصيلها في ثقافتنا لأنها مطلب اجتماعي، وضرورة اجتماعية وسياسية ضد واقع حضاري قاتم، نعاني فيه من شتى الظواهر الصعبة، ونسعى من خلال هذه الفلسفة إلى بناء وعي حضاري ، مما يرسي لدينا قناعة بحسن الاختيار لما في فلسفة حقوق الإنسان من مضامين شمولية كونية، ولما في ثقافتنا وقيمنا من مبادئ كلية تنص على احترام الإنسان وصيانة حقه في الوجود، والعمل على ضمان كامل حقوق المشروعة .
حقوق الإنسان في الإسلام مقررة ويجب العودة للكليات وليس للجزئيات، وعالمية الحقوق تعني تكريم الإنسان والرفع من مكانته، إيقاظ الوعي بحقوق الإنسان في ثقافتنا من الأولويات القصوى في العبور نحو المدنية، وبناء الإنسان فكريا وأخلاقيا، ومن هنا نعتبر مساهمات الجابري في هذا الشأن قليلة ومفيدة، ويستحق عليها الشكر والتنويه، لأنه ترك طريقا للبحث والتحليل عن المشترك بين الثقافات والحضارات، عن المنسي من التفكير، وتفنيد المغالطات التي جعلت من حقوق الإنسان علمانية المنطلقات وبالتالي لا يمكن قبولها من منطلق المرجعية الغربية التي تفصل بين الدين والحياة، وتغالي في تمرير بعض الحقوق، أو عندما يشترط الغرب على باقي الثقافات اختيارات غير قابلة للنقاش بدافع التعميم . فالجابري في تبسيطه للمفاهيم وأدوات البحث يلتف على التاريخ، ويعيد قراءة الأفكار، ويحلل منطق الواقع بأساليب جديد دون الدعوة لاستنساخ الماضي أو القطع مع الثقافة والقيم، بل يحاول إضفاء المشروعية على فلسفة حقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي، ويوحد بين الخصوصية والكونية، ويضع الإنسان في قلب العناية والاهتمام . فرغم اختلاف المرجعيات والسياق التاريخي لنشأة حقوق الإنسان في الفكر الغربي، يعتبر الجابري أن الأهداف والغايات واحدة في كل الثقافات، حقوق متأصلة في الطبيعة الإنسانية وبمثابة ثورة جديدة على التخلف والجمود، وبناء معاصر للحضارة لا يلغي الثوابت الدينية والثقافية، بل ينمي ما في الإنسان من ملكات، ويحرر الطاقات الإبداعية الكامنة، ويوقظ شعلة أمل في السير بخطوات مضمونة نحو المستقبل في إطار تحقيق حداثة ذاتية ، تنهل من قيمنا وتقتبس من الآخر .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.