محمد زكريا توفيق يكتب | العلامة أوريجانوس و الكنيسة المصرية (٢)

0 333

أثاء اضطهاد الامبراطور كاراكالا للمسيحيين في الإسكندرية، بسبب مقتل أخيه عام 216م، داهم المدينة بجيشه الجرار، وقتل من أبنائها الآلاف. فقام أوريجانوس بالهرب إلى فلسطين. هناك، استقبله ألكساندر، أسقف القدس، وثيوكتيستوس، أسقف قسارية.

قام الأسقفان بترتيب الإجراءات لكي يقوم أوريجانوس بإلقاء محاضراته في كنيستيهما، بالرغم من أنه لم يترسّم أسقفا من قبل. مما أثار حفيظة البابا ديميتريوس، فأمره بالعودة إلى الإسكندرية. كان الإضطهاد الديني قد توقف هناك، فعاد أوريجانوس للتدريس.

في عام 228م، أرسل أورجانوس في بعثة إلى اليونان لتهدئة مسيحي أكايا، جنوب اليونان. الذين كانوا يرفضون المدرسين الملحدين.

أثناء مروره بقسارية، ولكي يتجنب المزيد من المشاكل، سمح لأسقف قسارية بترسيمه كاهنا. هذا أيضا، اعتبره ديميتريوس، بابا الإسكندرية، انتهاكا وتعديا على سلطاته، أضف إلى ذلك الغيرة والحسد. فقام البابا ديميتريوس بأخذ خطوات لمعاقبته وتجريده.

في نفس الوقت، وصل أوريجانوس إلى أثينا. هناك، ظهر أنه خطيب لا يقارن. أثناء عودته عن طريق إفيسوس، حضر مؤتمرا لاهوتيا بالمدينة، للمساعدة في حسم الخلافات العقائدية.

نجاحه في اليونان وآسيا الصغرى، جلب عليه المزيد من سخط البابا ديميتريوس. الذي جعل الحياة غير محتملة لأوريجانوس. عند عودته إلى الإسكندرية، لم يكن يستطيع أن يفعل شيئا سوى مغادرة المدينة.

قرر الذهاب إلى قسارية. كان من شواهد عظمته، أنه غادر بدون أن يعترض على موقف الكنيسة منه. لم يحاول تكوين حزب معارض لمحاربة البابا ديميتريوس. لكنه فضل أن يضحي بنفسه، بدلا من أن يقوم بشئ يؤدي إلى انقسام الوحدة المسيحية.

دعى ديميتريوس إلى اجتماع للأساقفة، الذين قاموا بفصل أوريجانوس كمدرس وتجريده من رتبة كاهن. بزعم أنه قد تفوه بما يفهم منه، أنه مخالف لأصول العقيدة.

وفقا لما قاله القديس جيروم، كتاباته كانت فاسدة، وآراؤه كانت مشوهة حتى بمقاييس عصره. أما موضوع خصيه لنفسه، فبدأ يتداول في خطابات متبادلة بين الكنائس، وخصوصا كنائس روما.

الأسقف الروماني، فابيان، كان عنيفا في تأنيبه، وصديقه هيراكلاس، قام بالتبرؤ منه. وكانت الشائعات تقول أنه مرتد ومهرطق. بينما التهمة الحقيقية الوحيدة التي يمكن أن توجه إليه، هي طريقة ترسيمه كاهنا بدون علم أساقفة الإسكندرية.

بعد سنة واحدة، توفى البابا ديميتريوس. خلفه هيراكلاس، بابا لكنيسة الإسكندرية. الذي وقف إلى جانب الأساقفة والكهان المصرون على طرد ونفي أوريجانوس.

نفي أوريجانس إلى قسارية، كانت له فائدة. هناك، كان في مركز الثقافة وقريبا من الأماكن التوراتية. وجد السلام الذي ينشده وسط أصدقائه ومحبيه. فقام بمواصلة العمل في التعليقات وتأليف كتابه الشهير، هكسابلا.

عاد للتدريس، وأنشأ مدرسة لاهوتية في قسارية . أحد تلاميذه، كان جريجوري ثوماتورجيوس، الذي كان في زيارة قسارية بالصدفة. بعد مقابلته لأوريجانوس، مكث خمس سنوات حتى يكمل دراسته اللاهوتية معه. في كتابه، بانيجيريك، أبدى جريجوري احتراما عظيما لأستاذه، العلامة والمسيحي الملتزم. هذا الكتاب، ساعدنا على تبين سحر شخصية أوريجانوس الغير عادية.

الحياة الهادئة المسالمة لأوريجانوس في قيسارية، فجأة بدأت تداهمها عواصف وأعاصير الاضطهاد الديني. هذه المرة على يدي الامبراطور البربري القاسي، ماكسيمين. أثناء هذا الاضطهاد (235م)، عاش أوريجانوس متخفيا لمدة سنتين، في منزل سيدة مسيحية تدعى جوليانا.

من حسن حظ أوريجانوس، كانت هذه السيدة وريثة لأعمال سيماخوس، الذي قام بترجمة العهد القديم إلى اليونانية. هذه المخطوطات، كانت في غاية الأهمية لأوريجانوس، ساعدته في التحضير لكتابه هيكسابلا.

توقف الاضطهاد الديني في قسارية بعد مقتل الامبراطور الروماني، ماكسمين عام 238م. من ثم، عاد أوريجانوس للتدريس والكتابة، بصفة متواصلة، فيما عدا فترات قصيرة، كان يزور فيها اليونان وبعض البلدان العربية.

سنواته الأخيرة، كانت مشوبة بالاضطهاد الديني تحت حكم الامبراطور ديكيوس. الذي كان أعنف وأقسى ممن سبقوه من الحكام الرومان. كانت العليمات، هي القبض على كل المدرسين والموظفين والسادة المسيحيين. لم يستطع أوريجانوس الهرب هذه المرة.

من يوسيبيوس، نعرف أنه قد ألقي به في قبو مظلم، ووضع حول رقبته طوق حديدي ثقيل بسلسلة. وكانت ساقاه تفصلان عن بعضهما وتثبتان على لوح خشبي لعدة أيام. وكان يهدد بالحرق حيا على المحك. لكنه كان يرفض الإذعان والردة عن الديانة المسيحية.

توقف هذا الاضطهاد الديني، بعد موت ديسيوس. بالرغم من أن أوريجانوس ظل حيا وأطلق سراحه، إلا أنه قد أصابه الهزال والاضمحلال بسبب معاناته وما لاقاه في السجن. عاش بعد ذلك ثلاث سنوات أخرى.

أثناء هذه المدة، قام بكتابة الرسائل وإكمال كتاباته الكهنوتية. كما أن موت صديقة الوفي أمبروس، جعله يقضي أيامه الأخيرة لا يجد قوت يومه. ثم مات أخيرا أوريجانوس عام 254م، في سن السبعين.

من ناحية سحر الشخصية وتنوع مواهبها، يعتبر أوريجانوس من أهم الشخصيات الجذابة التي عرفها التاريخ. استقلاله العقلي والفكري، أثار عليه حفيظة المتعصبين الأرثوذكس، مما حرمه من التطويب والتقديس. معظم القديسين، لم تعلن قداستهم رسميا من الكنيسة.

بسبب آرائه الليبرالية المتقدمة، لا يعترف به مؤرخي الكنيسة المسيحيون. ولا يعتبرونه مفكرا أو حتى مسيحيا حقيقيا. الآن، نستطيع أن نقيمه ونعطيه حق قدره بعيدا عن العواطف والتعصب.

كان لدي أوريجانوس توازن عقلي نادر. جعل ثقافته واتطلاعه الواسعين، لا يتعديان على جانبه الروحاني. منذ طفولته، إلى آخر لحظة من حياته، وهو يظهر عدم معرفته للخوف. موقفه النبيل من اضهاد البابا ديميتريوس والكنيسة المصرية له، ليس له مثيل حتى بين القدسين المسيحيين.

تحكمه الصارم في شهوات نفسه، وحياته المعصومة من الرزيلة، جعلته يختلف جذريا عن القديس أوغسطين على سبيل المثال، بالرغم من شهرة الأخير واسعة الانتشار. يبدو أن الاعتراف بالقداسة من قبل الكنيسة، لا يخضع لشروط وقواعد مثالية.

كان له اجتهاد وصبر العلماء، الذي بلغ منتهاه، كما هو واضح، في استخدام الكلمات والجمل بدقة شديدة. لديه كل الخصال الحميدة المطلوبة في الأستاذ المعلم. تلاميذه كانوا يعبدوه عبادة. يعرف كيف يوضح المسائل، وكيف يثير انتباه المستمع، وكيف يتحدى ذكاءه لكي يساعده على إطلاق خياله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.