محمد فرج يكتب | شم النسيم وأعياد المصريين

0 959

يهتم أغلب المواطنين المصريين الأوائل والمحدثين (العاديين) بالاحتفَالات والأعياد، ويتفننون في إنتاج مناسبات خاصة أو عامة للاحتفال والفرح، مناسبات اجتماعية ودينية وطقسية ومناخية ووطنية، ولذلك اشتهر المصريون بكثرة الموالد والأعياد.

وكثير من احتفالاتنا وأعيادنا الراهنة موروثة عن المصريين القدماء، وهي أعياد متنوعة بتنوع الثقافات التي تكوِّن الهوية المصرية، ومتنوعة بتنوع الحقب والمراحل التاريخية التي عاشها ومر بها المصريون، ومتنوعة بتنوع الثقافات والعادات والتقاليد والأعياد الوافدة التي تفاعل معها المصريون ومصَّروها وطبعوها بالطابع المصري.
ومن بين أهم احتفالات وأعياد المصريين الموروثة من أيام مصر القديمة، احتفالات شم النسيم، فقد احتفل المصري القديم بعيد الربيع “شم النسيم” وارتبط هذا الاحتفال بتجهيز وأكل البيض الملون، حتى أطلق الأوروبيون على البيض الملون بيض الشرق، والبيض يرمز إلى خلق الحياة كما ورد في متون كتاب الموتى وأناشيد أخناتون، حيث “الله وحده لا شريك له خلق الحياة من الجماد فأخرج الكتكوت من البيضة”.
أما نقش البيض وزخرفته وتلوينه فقد تطور عن عادة قديمة لقدماء المصريين، هي عادة نقش الدعوات والأمنيات على البيض ثم تعليقه على أشجار الحدائق والحقول ليلًا لتحقيق الأمنيات مع الشروق، وتوجد بمتحف النوبة بيضة حُفر عليها منظر للأهرامات، كما جاءت عادة أكل الفسيخ في شم النسيم من المصريين القدماء، على أساس أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل التي تنبع من الجنة حسب المعتقد المصري القديم.
وارتبط الاحتفال بأكل الخس، الذي اعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة الخاصة بالخصوبة، وتوجد رسوم الخس منقوشة في المعابد، تعبيرًا عن ارتباطه بالخصوبة والولادة والميلاد وتجدد الحياة.
واستمر المصريون يحتفلون بعيد شم النسيم عيدًا للربيع في الحقب والمراحل التاريخية التي مر بها المصريون وحتى الآن، وأصبح يوم شم النسيم عطلة يحتفل بها المصريون العاديون من كل الأديان، فهو مهرجان وطني وليس دينيًا، بل أصبح عيدًا للمواطنة، حيث يقضي الناس العاديون كل اليوم في التنزه في المساحات الخضراء، والحدائق العامة، على النيل أو في حديقة الحيوان، وظل الطعام التقليدي الذي يتم تناوله في هذا اليوم مكونًا من الفسيخ (بوري رمادي مملح مجفف) والخس والبصل الأخضر، والترمس والبيض المسلوق الملون.
ووفقا لسجلات كتبها فلوطرخس خلال القرن الأول، اعتاد المصريون القدماء على تقديم السمك المملح والخس والبصل إلى آلهتهم خلال مهرجان الربيع المعروف باسم ” شمو “.
وفي الحقبة المصرية القبطية المسيحية، أصبح العيد مرتبطا مع عيد الربيع المسيحي وهو عيد الفصح، حيث يُعتبر عيد الفصح أو القيامة من أهم الاحتفالات الدينية عند الشرقيين والأرثوذكس الشرقيين أيضًَا، لكن هذا لا يعني بأن الأعياد والاحتفالات الأخرى غير مهمة، على العكس بل إن الأعياد الأخرى تعتبر تمهيدية لتصل إلى عيد القيامة، باعتبار أن عيد القيامة عند المسيحيين عمومًا وعند الأقباط المصريين، هو تحقيق رسالة المسيح على الأرض، لهذا يتم ترنيم الكلمات التي تقول: “المسيح قام من بين الأموات .. ووطئ الموت بالموت .. ووهب الحياة للذين في القبور.”
يقوم الأرثوذكس إضافة إلى الصوم وإعطاء الصدقات والصلاة في زمن الصوم الكبير بالتقليل من الأشياء الترفيهية وغير المهمة، وتنتهي يوم جمعة الآلام، و تقليديًا يتم الاحتفال حوالي الساعة 11 مساءً من ليلة سبت النور وحتى الساعات الأولى من صباح الأحد، ويبدأ الاحتفال بعيد القيامة بصلاة تسبيحة العيد عصر السبت ثم باكر عيد القيامة مع حلول الظلام، وأخيرًا قداس عيد القيامة مع انتصاف الليل وتختتم مع الساعات الأولى من يوم أحد القيامة.
وهكذا ارتبط شم النسيم بـيوم السبت، سبت النور وعيد القيامة (الفصح) الأحد والاثنين شم النسيم، وتداخلت وتشابهت مظاهر الاحتفال بعيد الفصح وشم النسيم، حيث الزينة بألوان زاهية تطبع أجواء المتاجر والبيوت بما تحمله من رمزية للفصح والربيع، و البيض بألوانه المختلفة و مفارش طاولات السفرة والمحارم بألوان الربيع هي عادات موغلة في القدم، وتكثر العادات وتتعدد الألعاب التي غالبًا ما ينتظرها الصغار صبيحة عيد الفصح وطوال يوم شم النسيم.
وما تزال عادة تلوين البيض مستمرة حتى يومنا، فتعج المتاجر الخاصة ببيض طبيعي وغيره من الصناعي واليدوي، بينما يقدم للأطفال بيض فصح وبيض شم النسيم مصنوع من الشوكولاتة، ويقوم الأطفال والشبان بحفلة سلق وتلوين البيض، ويقوم أطفال وشباب المصريين في الريف بوضع البصل الأخضر تحت المخدَّات أثناء النوم، ثم الخروج مبكرًا إلى الحقول وفروع النيل لرمي البصل في الماء، اعتقادًا بأن البصل يأخذ معه الكسل والخمول ويجدد النشاط واليقظة مع أعياد الربيع.
وهكذا ظل عيد شم النسيم مستمرًا مع المصريين عبر التاريخ، رمزًا لقدرة المصريين على العيش المشترك، واحترام التنوع والتعددية الاجتماعية والدينية والثقافية، ورمزًا للهوية المصرية والمواطنة، ورمزًا لإبداع المصريين للاحتفَالات و الموالد والأعياد التي تبعث وتجدد القدرة على الفرح، والقدرة على البهجة، والقدرة على الصمود في مواجهة مصاعب الحياة، ومواجهة خطابات العبوس والتشدد والعنف والتطرف والكراهية.
وحول شم النسيم يقول شاعر مصر العبقري صلاح چاهين في إحدى رباعياته:
يا ملونين البيض في شم النسيــم
لون الحنين و الشوق و خمر النديم
ما تعرفوش سايق عليكو النبــــــي
تلونوا الأيام بلون النعيــــــــــــــم؟
عجبي!!

محمد فرج ، الأمين العام المساعد لحزب التجمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.