منير المجيد يكتب | رقّ الحبيب
تصوّر فنّاناً تشكيلياً يضع أمامه عشرات الألوان، ويقوم بنقلها إلى خامته البيضاء، جريئاً دون تردّد.
تُفكّر كيف بوسعه أن يُنهي عملاً فيه كل هذا الكمّ والركام من الألوان، التي بدت غير مُنسجمة، لا بل مُتنافرة.
بعد أربع ساعات يُحقّق مُعجزة.
أو شيف أمامه، على طاولة المطبخ، عشرات الأنواع من الخضار، اللحوم، الأسماك والطيور، يقول لك أمهلني أربع ساعات، فتفكّر: مُستحيل. كيف له بمزج وخلط كل هذه المحتويات وتقديم وجبة شهيّة؟ خطأ! لأنّك ستتناول أشهى وأطيب وجبات حياتك.
هكذا فعل محمد القصبجي حينما اختلى بأمّ كلثوم لمدة أربع ساعات عام ١٩٤٤ ليُلحّن لها «رقّ الحبيب».
كانت أمّ كلثوم قد تجاوزت مرحلة الطقطوقات الموسيقية التي غلبت على السنوات العشرين الأولى من القرن العشرين، والتي كانت، في الأصل، لإرضاء مجون الخديوات وطبقة النبلاء. وكانت أيضاً تحتلّ المرتبة الأولى دون مُنازع، تاركة المكانة الأولى والثالثة لتتنافس عليها ليلى مُراد وأسمهان، وحتى الشابة ألكسندرا نقولا بدران اللبنانية السورية المولودة في ميرسين التركية (التي سمّاها يوسف وهبي بنور الهدى)، وطامحات عديدات أردن ركوب موجة الشهرة في مصر السابحة في أضواء السينما والغناء والمجد.
ورغم أنّ محمد القصبجي كان قد سبق له تلحين العديد من أغاني الآنسة/السيّدة كوكب الشرق، بدءاً بأغنية «قال إيه حلف ما يكلمنيش» عام ١٩٢٦، وخلال عقد الثلاثينات، ودخول الشاب رياض السنباطي على الخطّ عام ١٩٣٥، إلّا أن التعاون المُذهل هذا لم يُتوّج قبل رقّ الحبيب.
الشاعر أحمد رامي، الذي كتب أشهر أغاني السيّدة، والمُتيّم في حبّها أيضاً، إلى جانب قصب (هكذا كانت تُسمّي القصبجي)، كتب رقّ الحبيب.
لن أكون أولّ من يُعمّد هذه الأغنية الأعجوبة إلى واحدة من أهمّ الأغاني في تاريخ الموسيقى العربية، بل أكثرها عبقرية وصادمة. صادمة بسبب تنوعّ مقاماتها وإنسجامها في نفس الوقت.
في مطلعها (رقّ الحبيب وواعدني وكان لو مدّة غايب عني) يستعمل النهاوند، ثمّ يُحوّل إلى مقام راست (صعب عليّ أنام أحسن أشوف في المنام)، ويعود مرّة اخرى إلى نهاوند (غير اللي يتْمنّاه قلبي). وهنا تأتي المُفاجأة التي أذهلت مُختصي الموسيقى وذوّاقتها، حينما يقلب الطنجرة رأساً على عقب ويستعمل الراست (سهرت أستنّاه، وأسمع كلامي معاه)، ليعود إلى اللازمة الموسيقية نهاوند دو.
وهكذا يقفز من غصن لأخر برشاقة بلبل، فيزاوج بين مقامات السوزناك والنكريز والراست وحجاز كار كرد وحجاز وكرد والبياتي.
نجاح هذه الأغنية جعل مسيرة كوكب الشرق تُقسم إلى قبل رقّ الحبيب وبعد رقّ الحبيب. حتى أنّ رياض السنباطي الذي لم يخف غيظه وحسده حاول تقليد القصبجي على نحو واضح في «سلوا قلبي غداة سلا وتابا» عام ١٩٤٦.
الغريب أن أمّ كلثوم وضعت قصب خلفها كعازف عود فحسب إلى يوم مماته عام ١٩٦٦، إن لم أذكر مساهمته في وضع ثلاثة ألحان لها في فيلم «فاطمة» عام ١٩٤٨.
لا يتعلّق الأمر بعدم رغبته. هو كان يتحرّق في الواقع لتقديم المزيد إلى ثومة، ليُؤكّد ولعه وحبّه المكتوم لها. وقد قام بتلحين عدّة أغانٍ لم تثر إعجابها فأعطتها للسنباطي حيناً، ولمحمد الموجي أحياناً اخرى.
يقول قصب في حوار نادر لمجلة الشبكة عام ١٩٥٨ «أنا اليوم عازف في فرقة أمّ كلثوم». يُكمل الصحفي «ومُلحّن أمّ كلثوم»، فيقول «لا، ده كان من زمان. أنا عبد في طاعة مولاته. هكذا تُحتم عليّ لقمة العيش. أنا هويت وانتهيت يا أستاذ، خلاص، لم يبق مني إلا أنامل جرداء. قل عني إني بقايا ملحن، بل بقايا شخص، أنا عملت ما بوسعي وخرجت بأمّ كلثوم في أكثر من عشرة ألحان قدّمتها لها ولكنها أھانتني. وعندما تُهينني فهذا يعني أحد أمرين، إمّا أني فاشل وهذا رأيها، أو أنها رجعية وهذا رأيي».