نعيم إيليا يكتب | البُعد الفلسفي لفرضية الانفجار الأعظم
أن يقال في حدث الانفجار الكوني إنه فرضية، قول لن يحظى برضى الكثيرين؛ لأن الكثيرين ما زالوا يعتقدون اعتقاداً أبعد ما يكون عن الظنة، أن هذا الحدث المتخيَّل نظريةٌ علمية مثبتة، وليس بالقطع فرضية تحتمل المراجعة والامتحان. مع أن العلماء أنفسهم يقرون بأن الكثير من النظريات أو الفرضيات كان يُعتقد فيما مضى بأنها صحيحة بنسبة تسعة وتسعين إلى المئة، ثم تبيَّن لهم خطؤها بنسبة تسعة وتسعين إلى المئة.
يقول عالم سوفييتي سابق في هذا الصدد: ” إن العلماء يخطئون كثيراً، ولكنهم لا ييأسون “.
ويقول هوكينغ وليونرد ملوندينوف في كتابهما المشترك (تاريخ أكثر إيجازاً للزمن) ترجمة أ. د أحمد عبد الله السماحي. أ. د فتح الله الشيخ:
” علينا أن نحترس من الثقة الزائدة، فقد سبق أن خدعنا أكثر من مرة. ص 118“
ثم يضيف المؤلفان بعدها:
„ وينظر إلى أي نظرية فيزيائية على أنها مشروطة ومؤقتة؛ بمعنى أنها محض فروض لا يمكن إثبات صحتها. وكما أكد فيلسوف العلوم كارل بوبر فإن النظرية الجيدة هي التي تتميز بتقديم عدد من التنبؤات التي من الممكن من حيث المبدأ دحضها، أو إثبات عدم خطئها بالمشاهدة. وفي كل مرة تتفق فيها المشاهدات التجريبية مع التنبؤات تظل النظرية قائمة وتزداد ثقتنا بها؛ إلا أنه لو ظهرت مشاهدة واحدة جديدة لا تتفق مع النظرية فلا بد من تعديلها أو التخلي عنها. وهذا على الأقل ما ينبغي أن يحدث، ولكن لا بد دائماً من التأكد من كفاءة الشخص الذي يجري المشاهدة، وما يحدث عملياً هو أن النظرية الجديدة في الواقع هي امتداد لنظرية سابقة. فمثلاً تبين من المشاهدات الدقيقة لكوكب عطارد أن هناك اختلافاً صغيراً بين حركته وتنبؤات نظرية الجاذبية لنيوتن. وقد تنبأت النظرية النسبية العامة لآينشتاين بوجود اختلاف بسيط في الحركة عما تنبأت به نظرية نيوتن. وكان أحد أهم تأكيدات نظرية آينشتاين هو تطابق المشاهدة معها فيما لم يحدث ذلك مع نظرية نيوتن. ومع ذلك لا نزال نستخدم نظرية نيوتن في معظم الأغراض العملية؛ لأن الفارق بين تنبؤاتها وتنبؤات النظرية النسبية العامة ضئيل جداً في ظروف تعاملنا العادي، وهناك ميزة كبيرة لنظرية نيوتن كونها أكثر بساطة في التعامل بها من نظرية آينشتاين. والهدف النهائي للعلم هو تقديم نظرية موحدة لوصف العالم كله، وعلى الرغم من ذلك فإن الطريق الذي يسلكه معظم العلماء هو تقسيم المشكلة إلى قسمين: يضم القسم الأول القوانين التي تنبئنا عن كيفية تغير العالم مع الزمن، فإن عرفنا حالة العالم في أي لحظة؛ فإن هذه القوانين الفيزيائية تنبئنا بحالة هذا العالم في أي لحظة مقبلة، ويتضمن القسم الثاني سؤالاً عن حالة العالم في بدايته ، ويعتقد بعض الناس أن على العلم أن يهتم بالقسم الأول فحسب، وهم يرون أن التساؤل عن حالة العالم في بدايته أمر يتعلق بالميتافيزياء أو الدين. ص21- 22 „
ويضاف إلى ما تقدم من أقوال العلماء في هذا الصدد، أن قضية نشوء العالم، قد شغلت أذهان العلماء في كل عصر. بدأت من فكرة الخلق خلق الآلهة للكون من عدم، ثم تطورت على يد الماديين الإغريق الذين انشغلوا بالبحث عن أصل الكون خارج حدود العقائد الدينية، مستنتجين أن الكون موجود، ولم يوجد. وكان لكل منهم تصوره وحججه التي تنقض تصور وحجج الآخرين.
والحق أن فرضية الانفجار الأعظم ما هي إلا واحدة من جملة الفرضيات التي حاولت عبر العصور أن تفسر العالم كيف بدأ وكيف سينتهي. فليس من الحكمة إذن ألا تستدعي الشك فيها، ولا سيما أنها لا تتميز ” … بتقديم عدد من التنبؤات التي من الممكن من حيث المبدأ دحضها، أو إثبات عدم خطئها بالمشاهدة “.
فأما دحضها فأمر يسير. ما أيسر أن تدحض فرضية ليس ثمة دلائل من المشاهدة ولا دلائل من نظرية النسبية ومن نظرية ميكانيكا الكم على أن الكون نشأ من مفردة مجهولة!
ما هذه المفردة؟
من شاهدها؟
أي نظرية علمية تنطبق عليها ولها قدرة على تفسيرها؟
ترى أثمة عالم يعلم حقيقة هذه المفردة؟ أثمة تلسكوب يستطيع أن يشاهدها؟ أثمة نظرية تنطبق عليها؟ كلا، حتى النظرية النسبية فإنها عاجزة عن فهمها وتفسيرها، وكذلك نظرية ميكانيكا الكم فإنها ليست بأقدر من النسبية على تفسير حقيقة هذه المفردة.
وعجز النظريتين عن تفسيرها أمر لا يبخس ما لهما من قيمة. فإنه لأمر طبيعي معقول أن تعجز نظرية علمية عن تفسير نشوء العالم من عدم.
يقول صاحب كتاب الانفجار الأعظم إ. ليدسي. ترجمة عزت عامر: ” ونحن نبحث عن نظرية تصف أصل الكون، فدعنا نبدأ بفحص مقولة أن الكون خرج إلى الوجود من العدم. لقد رأينا في الفصل الخامس كيف أن التقلبات الكمية في الفراغ – أي في المكان الخالي – أنتجت تلقائياً جسيمات ونقيض جسيمات. وتتمثل الفكرة في أن تقلبات كمية مماثلة يمكنها أيضاً أن تؤدي إلى ظهور كون كامل. وتأخذ عملية البرهنة المسار التالي: في البداية كان العدم، ثم حدثت تقلبات كمية أدت إلى ظهور كون بازغ بالغ الصغر من الفراغ. ثم تضخم هذا الكون بعد ذلك ونما إلى بنية هي تلك التي نرصدها في وقتنا الراهن “.
حيث يفترض السيد ليدسي العدمَ، دون أن يعير اهتماماً بمسألة غاية في الخطورة هي: هل، كيف يأتي شيء من العدم؟
ومتى شوهد شيء يأتي من العدم، ليصح الافتراض أن كان في البدء عدم؟ ما العدم؟
وأيضاً، هل توجد تجارب علمية تثبت أن جسيمات يمكن أن تنشأ من العدم وفي العدم؟
بعض العلماء يشعرون بالحرج من فرضية الانفجار الأعظم من مفردة لا دليل على وجودها إلا الخيال الذي يماثل الخيال الديني، فيذهبون إلى وضع فرضية جديدة تقول بأن العالم أو الكون قد نشأ من شيء وتوسع ولكن لا في العدم وإنما في ثقب أسود.
فإن كان الكون نشأ من شيء، فإن المعنى الأمثل لهذا التصور أو الافتراض هو أن الكون كان شيئاً، وما زال هذا الشيء يتطور مع الزمن حتى بلغ هذا الشأو الذي هو عليه الآن.
وقد تظهر قريباً وبعيداً فرضيات ونماذج جديدة تنقض كل الفرضيات والنماذج التي وضعت لتفسيره وتحل محلها، هكذا دواليك حتى يستبين أمر الكون على حقيقته الأبدية الجلية.