وليد عتلم يكتب | هل انتهى عهد الديمقراطية التقليدية؟
يواجه مفهوم الظاهرة الديمقراطية تحدياتً كبيرة على المستوى العالمي، وظهرت عشرات الكتب التى ناقشت الأزمة فى نظم الديمقراطية الراسخة، أو فى الدول حديثة التحول إليها. وتنوعت الاتجاهات التى تبنتها ما بين الحديث عن موت الديمقراطية، ونهاية الديمقراطية أو التبشير بأشكال جديدة كالديمقراطية التشاورية، والتشاركية، والالكترونية. وذلك في ظل تساؤلات عدة حول مدى جودة النظام الديمقراطي فيما يتعلق باختيار الكوادر المؤهلة للقيادة في شتى المجالات خاصة السياسية منها، فالانتخابات الديمقراطية لم تعد تأتي للحكم بأفضل العناصر وأكثرها خبرة كما نشهد فى العديد من دول العالم، ويضاف لذلك التحديات المتعلقة نسب المشاركة فى التصويت والمشاركة السياسية بشكل عام، وتراجع دور الأحزاب التقليدية في ظل تراجع فكرة الديمقراطية النيابية، أو قبول الناخب أن يكون له نائب فى البرلمان يعبر عنه، حيث يرى المواطن أنه يستطيع أن يعبر عن رأيه مباشرة وبشكل أكثر فاعلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصال و دون الحاجة لوسيط أو نائب.
في المقابل تتصاعد مفاهيم واقترابات الجدارة السياسية في ضوء الصعود الاقتصادي السريع والقوي للنموذج الأبرز للجدارة السياسية على مستوى العالم متمثلًا في دولة الصين، في هذا السياق؛ يشير دانييل بيل في كتابه “نموذج الصين الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية”، الذي أصدرته عالم المعرفة أغسطس 2021، إلى أن نظرية الجدارة السياسية قد انتعشت وساعد على انتشارها الصعود الصيني، ومنذ بداية التسعينيات طور النظام السياسي الصيني نظامًا معقدًا وشاملًا فيما يتعلق باختيار وترقية الكوادر والقيادات. حيث كان قرار القادة الصينيون على ضرورة توافر بعض المهارات الإدارية، والمعرفة المهنية، والفهم الواسع لتاريخ الصين والعالم، وذلك كشرط لالتحاق بالوظائف والمواقع القيادية تنفيذيًا وسياسيًا.
ومنذ نهاية السبعينيات أصبح القبول بالجامعة شرطًا للترشح للوظائف والالتحاق بالحزب الشيوعي، وفي مطلع التسعينيات صممت الحكومة الصينية برنامجًا تنافسيًا قائم على الامتحانات التراكمية للالتحاق بالخدمات والوظائف العامة على مستوى الدولة.
في عام 2002؛ أصدرت إدارة التنظيم بالحزب الشيوعي الصيني اللائحة التفيذية الخاصة باختيار وتعيين الكوادر القيادية في الحزب والحكومة، ووضعت شروطًا تتصل بالتعليم والخبرات العلمية والسياسية؛ وكلما ارتفع مستوى المنصب، كلما زاد تعقيد تلك الشروط. وتراجع إدارة التنظيم مرة على الأقل كل عام سجلات الأداء لكل موظف في درجة عليا، ويتم عقد مقابلات مع رؤسائه ونظرائه ومرؤوسيه، كذلك يتم استخدام استطلاعات الرأي لتقييم الرضا العام من المواطنين عن أداء هذا الموظف، ثم تفحص اللجان تلك التقارير وتصدر قرارات الترقي والتصعيد.
انطلاقًا من ذلك استند الحزب الشيوعي الصيني في شرعية حكمه إلى مصادر ثلاثة هي: الوطنية، شرعية الأداء، والجدارة السياسية، انطلاقًا من ذلك فالديمقراطية بالنسبة للشعب الصيني تعني “حكومة لمصلحة الشعب” وليس “حكومة من الشعب”، وبالتالي إذا كانت الحكومة الصينية “تخدم الشعب” فهي حكومة وحكم ديمقراطي. لذلك نجح الحزب الشيوعي في تأمين المشروعية السياسية باعتباره أداة لحماية الوطنية الصينية.2
النموذج الثاني: النموذج الفرنسي (المختلط) ما بين الديمقراطية التمثيلية والجدارة السياسية؛ حيث تمثل المدرسة الوطنية للإدارةENA) ) École nationale d’administration والتي أسسها شارل ديجول نموذجًا لتحقيق الجدارة السياسية، ووفقًا لهذا النموذج تقدم مؤسسة الجدارة السياسية الممثلة في المدرسة الوطنية للإدارة قادة سياسيين تتوافر بهم صفات الكفاءة والجدارة كتفضيلات وخيارات أمام الهيئة الناخبة في النظم الديمقراطية، حيث يتم إعداد النخبة المرشحة لللالتحاق بالوظائف المدنية عبر مجموعة من أعقد الأمتحانات صعوبة على مستوى العالم، حيث يخوض المرشح خمسة اختبارات كتابية في: القانون العام، الاقتصاد، والمعرفة العامة، إلى جانب تلخيص مستندات إما في القانون والسياسات الأوروبية أو القانون والسياسات الاجتماعية، إلى جانب امتحان خامس يختاره المرشح في موضوعات مختلفة.
يعقب ذلك خضوع المرشحين الحاصلين على أعلى درجات لامتحانات شفهية في مجالات؛ التمويل العام، السياسة الدولية، وغيرها من الموضوعات، ثم المرحلة الأخيرة المتمثلة في الامتحان الشفهي الشهير والمعروف بـــ GRAND ORAL ومدته خمس وأربعون دقيقة، ثم اختبار اللياقة البدنية، ومن أبرز مخرجات المدرسة الوطنية للإدارة في فرنسا أنه تخرج منها أربعة من آخر ستة رؤساء جمهورية في فرنسا بينهم ماكرون، إضافة الى عدد من الوزراء والمسؤولين. وعلى الرغم من إعلان الرئيس ماكرون إلغاء “المدرسة الوطنية للإدارة” تحت وطأة أزمة “تظاهرات السترات الصفراء”، والإعلان عن استبدال “معهد الخدمة العامة” بالمدرسة، والمعهد مؤسسة جديدة أكثر انفتاحًا على التنوع وأقل نخبوية. وتبقي المدرسة الوطنية للإدارة رمزًا للجدارة السياسية على مستوى العالم.
هذا التراجع في مفهوم وظاهرة الديمقراطية لصالح مفاهيم أخرى كالجدارة السياسية؛ يمثل جدلية مهمة فيما يتعلق باختيار الكفاءات المؤهلة لشغل المواقع القيادية خاصة على مستوى البيروقراطية المصرية التي أصابتها الشيخوخة والعجز والانفصال عن الواقع التكنولوجي المتسارع والتحديث في الحكم والإدارة، وأصبحت في حاجة ماسة لمن يُعيد إليها الحيوية ويضعها على مسار التطور الحديث. هنا جاءت التجربة المصرية