رامي جلال يكتب | مواطن مصري اسمه “جلال عامر”
12 فبراير 2022. الذكري العاشرة لرحيل مواطن مصري اسمه “جلال عامر”، ترك أثرًا جميلًا، ترتب عليه أن غاب الجسد لعقد من الزمن دون أن يؤثر هذا كثيرًا على بقاء الفكرة.
كثيرون رحلوا في هذا التاريخ، لكن كل يُغني على ليلاه. في مثل هذا اليوم أيضًا، غادر عالمنا: “إيمانويل كانت”، و”جورج أبيض”، و”حسن البنا”، والثلاثة أعلام في مجالاتهم: فلسفة المعرفة وفن المسرح وعلم الإجرام، علي الترتيب.. لكن بالنسبة لي هذا اليوم هو فرصة للتأمل.
مواطن مصري بسيط، خرج من الحارة المصرية، بمعناها الكلاسيكي، وانتهى مشواره بتناقل خبر وفاته بسبع لغات على الأقل. شخصية “جلال عامر”، الكاتب المتميز، ثقلتها طبيعته العسكرية، فهو ابن الدفعة ٦١ حربية. وحارب طوال عمره، وخدم وطنه بإخلاص، ضابطًا من صناع النصر وكاتبًا من صناع الرأي.
جلال لم يُكرم في حياته، لكنه دخل التاريخ الأدبي، وسيذكره الجميع لسنوات طويلة جدًا بعد أن يكون كل الموظفين واللا مبدعين، ممن قد يحتل بعضهم الشاشات لفترة، قد رحلوا وأصبحوا نسيًا منسيًا، وقد كُتبت عنه بالفعل وعن أسلوبه حوالي عشر رسائل دكتوراه حتى الآن.
انحاز “جلال عامر” إلى جموع البسطاء ولُقب بـ “أمير الساخرين” و”فيلسوف الغلابة”، وكلها ألقاب لم تكن تغريه، لكنها من الأمور التي تلتصق بالشخص رغمًا عنه. لم يسخر جلال أبدًا مما يُوجع الناس بل ممن أوجعهم، فلم يوجه قلمه ضد الفقراء، بل وضعه سلاحًا في وجه من أفقرهم، ولذلك اصطدم بالسلطة ولم يكن بوقًا لها، ومُنع سنوات من الكتابة، لكن من حُسن حظنا أنه كان غزير الإنتاج في سنوات عُمره الأخيرة.
مقالات “جلال عامر”، خصوصًا عموده “تخاريف”، كانت صفعة حنونة على الوجه، تجعل القارئ يفيق ويبدأ في التفكير في كيفية نجاح هذا الكاتب في أن يستقبلك أول المقال ويوصلك إلى نهايته في خفة وسلاسة يحسده عليها أمهر راقصي الباليه، وأظن أن هذا أحد أنواع “المقال التحريضي” إن جاز لنا التعبير؛ لأنه لا يُغيب عقل المتلقي بل ينبهه إلى حقيقة واقعة ويدعوه إلى التغيير، ولكن دون آفة “المباشرة”.
من أهم ما يميز “جلال عامر” فنيًا هو الابتعاد عن المقدمات والوصول مباشرة إلى صلب المواضيع، فهو يُقدم لنا أكبر عدد من الأفكار في أقل عدد من الكلمات. ولذلك، ورغم أن إمارة السخرية مترامية الأطراف، فقد استطاع جلال عامر أن يبسط سيطرته عليها، ويُخضع كل من فيها.
جلال لم يترك أية أموال لكنه ترك ما هو أهم وأقيم؛ حب وتقدير عشرات الملايين من المحيط إلى الخليج.. هذا هو الدرس، وهذه هي الأمور التي تبقي، والأشياء التي يجب أن نحارب من أجلها. وهذا هو الإرث الحقيقي، من المرجح أن أقضي بقية حياتي في طبقتي الاجتماعية المخلصة، والتي عادة ما تلتصق بصاحبها وتطمئن عليه في المهد إلى أن تسلمه بنفسها لباطن الأرض، لكن ما لدي هو أكبر وأعمق من الحسابات البنكية، الأهم هو الحسابات الختامية التي سأقدمها في نهاية الرحلة، وهي مسؤولية كبيرة على عاتقي للحفاظ على التراث والاجتهاد بتحقيق نبوءات كثيرة، تتحقق شيئًا فشيئًا مثلما قالها نصًا، وكأنه كان من قراء الطالع. عمومًا لن تكفي المساحة لما يمكن قوله… رحم الله من رحل عنا فجأة دون وداع.