د. دينا محسن تكتب | حفظ الله السودان
تمددت الفتنة وتخللت الجسد السوداني، عبر العصور والتاريخ، وامتدت النعرات القبلية والمشاحنات وخطاب الكراهية إلى أبعد الحدود، وتراجع دور قادة الرأي والفكر عن طرح خطاب متوازن بعيدًا عن المزايدات والمشاحنات.
أصبح السودان يعيش وحيدًا أصعب مرحلة في تاريخه، مرحلة عنق الزجاجة، إما أن يخرج وإما أن يعود إلى القاع، وربما تمتد المساحة الزمنية لرحلة العودة عقود وعقود، تملأ تلك المساحة بركة دماء لا مثيل لها، وكساد اقتصادي وعنف وتطرف، وجوع وانهيار لا حدود لاتساع هُوّته.
على كل الأطراف السياسية وغير السياسية الآن التي تتبنى خطاب مناهض للدولة، (تجمع المهنيين، لجان المقاومة، الحركات المسلحة، حركات التحرر الوطني، مجلس نظارات البجا، قوى الحرية والتغيير، الحزب الشيوعي، حزب الأمة، الحزب الاتحادي، حزب المؤتمر، وباقي الأحزاب)، أن يرفعوا أصواتهم بوضع حلول للعبور من تلك الأزمة، وليس رفع شعار يسقط حكم العسكر، فهذا ليس توقيت مناسب لتصفية الحسابات، وليس حتى من الذكاء السياسي الاحتراب على أرض محروقة، من أجل مكاسب محروقة.
سترث الأحزاب والسياسيين أرض محروقة، بعد أن يحرق خطاب العنصرية والكراهية كل ما هو ذات قيمة على أرض السودان. أكثر من ٢٥ مليون سوداني مهددون بخطر المجاعة، وانتقل الاقتتال القبلي من شمال وجنوب دارفور إلى غربها، الجنية، كردُفان، النيل الأزرق، كسلا، ومازال يمتد إلى باقي المدن في شرق السودان. تأجيل اتخاذ الخطوات لتفعيل اتفاق السلام في جوبا، ما يهدد بانهيار الاتفاق، بل ويهدد أيضًا استقرار جنوب السودان، مشكلات جمة في قطاع الزراعة، كتراجع نسبة الأرض المزروعة ما أدى لفشل الموسم الزراعي، تراجع صادر الماشية الذي يعتمد عليه السودان كمصدر دخل قومي، وعدم القدرة على السيطرة على الآثار الناتجة عن فيضانات موسم الخريف، مشكلات انقطاع الكهرباء، ونقص المياه، المشكلات الصحية وانتشار الأمراض والأوبئة، الاضرابات المستمرة في قطاع الصحة والتعليم، تراجع الجنيه السوداني أمام الدولار بصورة مخيفة، وتراجع الاحتياطي في البنك المركزي السوداني، مشكلة الديون الخارجية للسودان والتي تخطت المليارات،
الاحتراب السياسي بين المجموعات السياسية والتنظيمات والحركات والأحزاب، حمل السلاح خارج إطار القانون وخارج المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية، عدم القدرة على توحيد المؤسسة العسكرية ودمج قادة الحركات المسلحة فيها، إشكالية النازحين السودانيين في الغرب والشمال والجنوب وحتى الشرق، مشكلة اللاجئين الإثيوبيين في شرق السودان، أزمة ولاية القضارف ووجود تهديد دائم من الميليشيات الإثيوبية المسلحة لشرق السودان، انتشار الجرائم الفردية والجماعية والعنف السلوكي وتجارة المخدرات، عدم القدرة على الاستفادة من معدن الذهب نتيجة السرقة والتهريب المتكرر، عدم القدرة على ضبط الأسعار فى الأسواق المحلية بالسودان.
يمر السودان بمرحلة انتقالية قد تكون الأصعب: ضغط خارجي وداخلي، ربما يؤدى لعواقب وخيمة، وإن لم يكن هناك أصواتًا وطنية تدعم المؤسسة العسكرية في تلك المرحلة، من أجل الخروج منها بانتخابات رئاسية وتشريعية ينبثق عنها حكومة وطنية تمثل الشعب السوداني وتلبى احتياجاته وطموحاته، وتُنهى المرحلة الانتقالية بسلام.
على كل السياسيين الانتظار وتحويل المعارك الجانبية والمصالح الفردية، إلى مكانها الصحيح ولتكن معارك انتخابية بشعارات وطنية ومنافسة شريفة عبر صناديق الاقتراع، حتى لا يتم تمزيق السودان أكثر منا هو عليه.
كل المؤشرات الاستقصائية الدولية وحتى الأمم المتحدة تتنبأ بمستقبل غامض ومخيف ومجهول ينتظر السودان كدولة وشعب، إن لم يتم تصحيح الأوضاع ورسم المسار الصحيح للعبور للمستقبل.
الآن لا سبيل للتهدئة سوى بفرض حالة الطوارئ، وتولى الولاة العسكريون للولايات المضطربة أمنيًا، وضبط التفلتات، والبدء في تنفيذ اتفاق السلام ونزع السلاح من المواطنين والحركات والتنظيمات، ووضع حد زمنى فاصل لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ووضع مسودة مشروع قومي وطني يلتف حوله الشعب السوداني، مثلما حدث في مصر بعد ثورة ٣٠ يونيه، والاتجاه نحو العمل والإنتاج بديلًا عن التظاهرات الفوضوية، وأن تتحمل وسائل الإعلام السودانية مسئولياتها الوطنية وتعمل على ضبط خطابها السياسي الإعلامي، والاستمرار في حالة الحوار، لكن ليس الحوار بصيغه السياسية ولكن حوارًا شعبيًا مجتمعيًا، لامتصاص غضب الجماهير واحتواء التظاهرات الفوضوية التي لا تحتوى على مطالب جوهرية وطنية مهمة، بل شعارات سياسية وليست اجتماعية، معظمه مأجور والبعض الآخر مُغيّب عن الحقيقة، وضبط خطاب الكراهية والعنصرية السياسية والقبلية، ومعاقبة القائمين عليه. حفظ الله السودان والهم شعبها الصواب والرشاد.