سامي عبد العال يكتب | الأم .. مريم العذراء

0

يمكن للفلسفة أنْ تقترب من دلالة الأم في شخصية ( مريم العذراء ) من أربع جهاتٍ:
1- جهة السر في كونها أمَّاً دون زوجٍ بالمعنى المتعارف عليه. وهذا السر ظل ممتداً وسارياً في جميع تفاصيل الديانة المسيحية. لأنه مَكَّن اللاهوت المسيحي تاريخياً من بلورة معاني الروح القدس والتجسد والحب والخطيئة والخلاص.
2- جهة معاني المرأة التي احتفظت بقداسةٍ ما، وكانت ذات مكانة كبيرةٍ كأمٍّ للإله مثلما وردَ في تاريخ المسيحية. وهو ما جعلها مبحثاً لاهوتياً خاصاً بالعذراء وظهورها وسماتها وإعتبارها مرجعية لاهوتية في تاريخ الإيمان.
3- جهة مفارقة العذراء- الأم .. كيف تكون عذراءً من هي أمُّ بالضرورة أو العكس؟! وهنا كان المنفذ الروحي لحياة التبتل والنقاء والخلاص الإنساني بالمثل. لأنَّ معجزة الأم العذراء ليست تعطيلاً لقانون الطبيعة فقط، بل كذلك تعطيلاً لقوانين الثقافة وهذا هو الأخطر على المدى البعيد. وهو نوع من الأمل لدي المسيحية بأن هناك نتائج دون مقدمات ملموسة وأن الحقيقة دوما ليست كما نعرفها، لأن الإله ظل حاضراً في العذرية بدرجة كبيرة. وكان ذلك مدخلاً لفهم التصنيفات الأنثوية والذكورية بشكل فلسفي مختلف.
4- جهة خُفوت نبرة الأبوة في السرديات الدينية مع وجود السيدة العذراء. وكأن الأديان تكسر أقنوماً ثقافياً هو الأب واسع التسلط والأسبقية. والحقيقة التاريخية تقول إن تلك الفكرة كانت لها أبعاد فلسفية، لكونها رسخت مبدأ الأنثى وأصالة أفعالها في الحياة البشرية وأتاحت للمرأة المطالبة بالحرية والمساواة والحياة الكريمة. فلئن كان الأنبياء السابقين ذكوراً، فإن السيد المسيح يدين بالفضل لأمه العذراء. وهذا تحول خطير في ( جهاز إدراك البشرية من ثقافة سائدة إلى معان أخرى، عليهم أن يفكروا فيها.
ورغم أنَّ الفلسفة لا تجتمع والقداسة في وعاءٍ واحد، إلاَّ أنَّ وضعية المرأة الدالة في السيدة مريم العذراء كانت محلاً لإستفهام جدلي. استفهام من قبيل: كيف كانت المرأة منتجة لسر مقدس من قوة فوق طبيعية( الله )؟ أليس ذلك بعداً إنسانياً آخر لوجود المرأة من الحياة والعالم والإله ؟ لماذا كانت العذراء علامة فارقةً في تراث الأبوة؟!
إذْ لم تظهر فكرةٌ بوضوحٍ مثلما ظهرت فكرة الأبوة خلال تاريخ البشر، فهي متعلقة بالسلطة والقوة وصورة العالم والحقيقة والزمن والإله. فلقد تمَّ تصوير كل تلك المفردات الأساسية على هيئة ذكورية خالصةٍ، وتم رسمها كأنها نابعة من ذلك النسغ الثقافي البعيد. تقريباً لا يوجد نمط من أنماط السلطة لم يمر بالأبوة سلباً أو إيجاباً، لدرجة أنه لم يظهر معنى إجتماعي دون أن يعيد انتاج نفسه من خلالها. الأبوة هي الشكل الذي أخذته المجتمعات لكافة الأعمال والأفكار في المجال العام. هل حين جعل الله مريم العذراء( أماً وأباً معاً) كان يقصد هذا التعارض إزاء الأبوة؟ فلم يكن الآباء ليعلموا أنهم ( مجهولو النسب ) فجأة، بمجرد إبطال مسارهم كونياً من قبل سلطة أعلى هي ( الله ).
دعَكَ من الرسالة النبوية التي حملها ابن السيدة العذراء، لأنَّ إعجازها وقوتها في سياق الإنسانية عملية خاصة بالإيمان من عدمه. وهذا أمر سهل بالنسبة لمن يؤمن ولمن يكفر على السواء. فالمؤمن بالمسيحية سيقبل ألوهية السيد المسيح بطريقة من الطرق، وغير المؤمن بها سيرفض ذلك بالطبع، كل منهما وفقاً لمذهبه سواء أكان أرثوذوكسياً أم كاثولوكياً أم بروتيستانياً. وستنتهي القضية عند هذا الحد الذي لن يؤثر في تراث الثقافة الأبوية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.