نجيب علي العطار يكتب | ظاهرة عدنان إبراهيم
من الصعبِ على المرء أن يكتبَ مقدّمةً مكثّفةً يَعمدُ بها الى التمهيد للتعريف بفِكرِ المُفكّر الفلسطيني الأكثر إثارةً للجدل؛ عدنان إبراهيم. ولعلّ أكثرَ العبارات نَفعًا في هذا المقام هي التي قالها “علي الجَفري” عن الحُب؛ “يُعرَفُ ولا يُعرّف”، وهكذا عدنان إبراهيم. والسببُ وراء عصيانه على التعريف، المُحيط به إحاطة تامّة، رغمَ ما يحملُه خطابُه من وضوحِ المنهج والمعنى، هو موسوعيّة خطابِه الذي يَلِجُ الى جوهر القضايا دون إهمال قشورِها بصورةٍ توحي بأنّهُ يرى العالَم من فوق ويُقدّمُ الأفكار “التقليديّة” الى متلقّي خطابِه كأنّها تُقال لأوّل مرّة.
يتّسم الخِطاب العدناني، إن جاز التعبير، بعدّة سمات جعلتْ منه مَحطَّ عقول الشباب المسلم المثقّف المتعطّش الى خطابٍ إسلاميٍّ يستجيبُ، بصورةٍ مُرضية، للإنفتاح الذي صار اليه الشباب المُسلم والعالم المُختلف عنهم كلٌّ على الآخر. فمِن حيثُ أدواتِ الخطاب؛ إنَّ معرفةَ عدنان إبراهيم بعلوم اللّغة العربيّة واطّلاعَه الواسع على المؤلّفات العربيّة والإسلاميّة، إضافةً الى ما أنتجته الثقافات العالميّة من علومٍ وآداب، كلُّ هذا أكسبَه مَلَكَةَ الذوقِ في انتقاء الكلمات، إن جاز التعبير، حيث ينسابُ كلامُه الغنّي بالبلاغة والبيان حدَّ الترف، بصورةٍ شِبه عفويّة وقُدرةٍ هائلة على الإستدراك الآنيّ للّحن. على أنّ إطّلاعَه على التراث العربي والإسلامي القديم جدًا لم يُشكّلْ عائقًا أمام تحدُّثِه بلُغة العصر الذي يعيشُ فيه. وتطغى على أسلوبِه الخطابيّ صورُ الأدبِ والإنفعال والتفاعُل الإنساني مع المعاني التي يُرسلُها الى متلقّيه، بصورةٍ تعكسُ إنسجامَه مع ما يطرحُه من أفكار، كاسرًا بذلكَ الصورةَ النمطيّة غير المرغوبة للـ “داعية الإسلامي” إن صحَّ أن يُطلقَ على عدنان إبراهيم هذا اللّقب.
ومن حيثُ مضمون الخطاب والمواضيع التي يطرحُها؛ يُشكّلُ خِطاب عدنان إبراهيم ثورةً حقيقيّة في عالم الخِطابة الإسلاميّة المُعاصرة، حيثُ تنقلبُ “الخُطبةُ” الى “مُحاضرةٍ” علميّة تغوصُ في عمقِ النظريات العلميّة والفلسفيّة والدينيّة على حدٍّ سواء، فتُعرضُ النظريّةُ بأدلّتها وبراهينها وما كان حولَها من جدلٍ وجِدال، ويتحوّلُ “المسجدُ” الى قاعةِ محاضراتٍ جامعيّة، ويتحوّلُ الدين، في الطرح العدناني، الى أسلوب حياةٍ يقوم على رؤيّة ذات أصالة إسلاميّة وإنسانيّة من جهة، وانفتاحٍ على رؤى الإنسان المُختلف من جهة أخرى، وفي هذا ثورةٌ مزدوجة؛ أي على الصورتين النمطيتين للخطبة الدينيّة والمُحاضرة العلميّة على حدٍّ سواء. ولعلّ أكثرَ ما يحتاجُه العقلُ المسلمُ اليوم هو المزيد من الاحتكاك بالعِلم، الطبيعي والإنساني، وبالمنهج العلمي على وجه التحديد.
وتلعبُ النظرةُ الواقعيّة تجاه الدين دورًا بارزًا في تشكيل آراء عدنان ابراهيم الفقهيّة، ممّا يُعطي هذه الآراء قابليّةً عمليّةً، ونظريّةً، للتطبيق. ففهمُ المسلمين للنصّ المُقدّسِ هو بالضرورة ليسَ مُقدّسًا، وادّعاءُ حيازةِ الحقيقة المطلقة أمرٌ يسيرُ في الخطّ المُعاكس لـ “خطّة الله في الخلق” كما عبّر عدنان إبراهيم. من هنا كان تشديدُ الخطاب العدناني على ضرورة انفتاح المسلمين بعضهم على بعضٍ من جهة، وعلى غيرهم من أهل الأديان والمُلحدين على حدٍّ سواء من جهة أخرى، انفتاحًا ذا أصالة إسلاميّة وبعدٍ إنسانيٍ يبخعُ للحقيقة، التي قامَ الدليلُ عليها، بعيدًا عن انتماء مُقيمِ هذا الدليل، ليَحُولَ التزامُ عدنان إبراهيم بالحقيقة بينه وبين تصنيفه، وهذا ما يُميّزُ المفكّر الحقيقي ويجعلُه مثيرًا للجدل. إضافةً الى ما ينطوي عليه قلبُ عدنان إبراهيم من جُرأةٍ وشجاعةٍ على طرح مواضيع تحولّتْ من قضايا خاضعة للنقاش والبحث الى “تابوهات” محظورٌ الكلام فيها.
إنّ العالم الإسلامي اليوم يحتاجُ بحقٍّ الى خطاب عدنان إبراهيم وطروحاته. ورغم ما قد تحملُه من ثغراتٍ، يُتركُ الحديثُ فيها لأهل علومها، لكنّ يبقى فكرُ عدنان إبراهيم أهلًا لأن يُطرحَ في مهمّة التنوير والإصلاح الدينيين، بل هو ضروريٌ لأن يُدرسَ بجدٍّ، لأنّه أهلٌ لأن يُختلفَ معه. هذه السمات، وغيرُها ممّا لا يُحاط به في أسطرٍ قلائل، جعلتْ من عدنان إبراهيم ظاهرةً لا تُشبهُ إلّا نفسَها.