محمد كريم الساعدي يكتب | الهوية الجمالية (2-2)

0

رسم “هوميروس” في ملاحمه صورة البطل التي ترتبط في أدائيات جمالية أخرى في الملحمة ،إذ “أستعمل هوميروس عبارة (أن أثينا سكبت الجمال على أوليس) . فالفن عند هوميروس هو حرفة ، فهو عندما يتكلم عن الأبداع الفني يفهمه كأنه عمل جسماني منتج ، كحرفة”، وهذا الابداع الفني قد يفهم بمروره بمراحل هي :
• الأولى: الحرفة الجمالية التي عمل (هوميروس) على صياغة أفكاره على وفق الرائع ، والجميل ، والمتناسق في فكره الذي أبدع ملاحم كبيرة صمدت على مر التاريخ أمام كل القبح الذي انتجه العالم على مر السنين ، وأصبح هذا الرائع هو التصور الجمالي عنده من خلال صياغاته الفنية والجمالية في الملحمة .
• الثانية : عمل على صياغة المصطلحات الجمالية في شخصياته البطلة التي انتجت صور جمالية متناسقة بين الشكل والمضمون في الملحمة ، كما في الشخصية التي نتناولها بعد قليل في التحليل الجمالي عند (هوميروس).
• الثالثة : عمل على اضافات مكملة في ملحمته تظهر الجانب الجمالي الذي ركز عليه في الملاحم من خلال الوصف الذي قدمه والذي وصف الأداء الطقسي في ” الألياذة والأوديسا ، وتكلم عن تأثير الغناء والموسيقى في حياة الإغريق . فهو يقص لنا عن المعني (ديمودوك) الذي أثر بأغانيه على حرب طروادة في نفس أوليس فأبكاه|.
• الرابعة : في المعطى الجمالي لدى (هوميروس) وإعادة البناء الجمالي في المخيال الإغريقي من خلال صياغة البطولة في هذه الشخصيات التي تحمل معها التناسب في الصياغة الجمالية في البناء الملحمي . ولو أستعرنا تشبيهات (أرلوند توينبي) في كتابه (بحث في التاريخ) عن أسلوبه الثالث من أساليبه في البحث في التاريخ ، وهذا الاسلوب الثالث الذي يركز فيه على مفهوم (إعادة الخلق) من خلال إعادة خلق صورة البطولة في رسم النظام في اليونان القديمة ، وإعادة أسلوب الرائع والجميل في صناعة شكل الهوية التاريخية والجمالية التي أسهمت فيها صور فنية وشعرية من خلال تشكيل الوعي اليوناني بملاحمه التي من بينها (الإلياذة) ، التي ابدع فيها (هوميروس) البطل المخلّص والذي جعل منه المنقذ في الحرب ضد طروادة ، إذ جعلت من التجربة التاريخية التي يرى فيها المؤرخ أنها قد وقعت في الفترات الاولى من تكوين الدويلات اليونانية ، وقد أعاد (هوميروس) أنتاجها في ملحمة لنسج العلاقات بين الكوائن البشرية .
إنَّ الحرب مع طروادة هي من أجل الزعامة والإخضاع ، والصورة من الصراع الأولي أوجد في الفكر الغربي تجربة متقصدة أبدعها شاعر إغريقي في ملحمته الشعرية ، ولكن المهم فيها البطل المخلّص وصورته التي اصبحت الدائرة الأبرز في هذه التجربة المستمدة من أحداث التاريخ ، ويرى (والتر كاوفمان) في كتابه (التراجيديا والفلسفة): “إنَ هوميروس لم يسرد أحداث السنوات العشر التي استغرقتها الحرب ، ولا حتى أبرز أحداث حرب طروادة ، بل هو يختار موضوعاً وحداً ، هو غضب (آخيل) ، ويقصر قصيدته على زمن محدود بصورة مدهشة . أما الأحداث الواقعة خارج هذا المدى الزمني ، والتي يرغب في طرح فإنه يقدمها من خلال الأحاديث . وكان مبدأ الترتيب الذي نظم به قصته هو الصراع وعلى أوضح المستويات ، فقد تصور الحرب باعتبارها سلاسل من الصراعات” تؤدي الى بناء صور لعملية بناء الشكل الرائع في صورة البطل الذي يؤول اليه الأمور فيما بعد وصولاً الى أنتاج عملية محكمة في شكل وهيئة البطل المخلّص ، ويعمل على جعل الأحداث كلها تدور حول ما يقوم به ، أو ما يريد القيام به تجاه من يعارض مواقفه . ولكن يبقى موقف البطل وفياً لصالح المرجعيات العليا التي تتحكم بالصيغ العليا للدولة وليس تجاه مقتضيات المعايير أخرى خارج هذا الفكر ، بل إنَّ توجهات (أخيل ) عند (هوميروس) من أجل المصالح العليا لليونان ، والذي سيصبح فيما بعد المتمركز الأساسي والمهم في إنتاج وإعادة خلق صورة لتجربة تاريخية متقصدة في الوعي الغربي وهويته الجمالية في هذا المجال . ويمكن أن نؤشر أن (هوميروس) هو صورة للفنان الباصر ومن المساهمين في إنتاج هوية مبتكرة في تجربته الملحمية ذات البعد القصدي في تأسيس وعي جمالي غربي يعمل من أجل المصالح العليا للدولة ولكن على وفق المبدأ وبناء ميتافيزيقيا قائمة على مرجعيات التمركز الجمالي في الثقافة الغربية ، قد الهمها قراء هذه التجربة في إيجاد البعد في الذات الغربية . فالفنان في هذه المسألة أصبح من الذين ابتكروا واجتهدوا في إعادة خلق التجربة بطريقة تفعّل النواة الأولى للذات المتمركزة حول البعد التاريخي للهوية الثقافية والجمالية الغربية وللغائية التاريخية من ورائها . وهذه التجربة التاريخية في الصراع مع (طروادة) وإعادة خلق الصراع في (الإلياذة) جعلت من هذا الفكر يركز في صياغة الهوية ذات البعد المعياري القائم على صورة التكامل في انتاج البطل وفي ابتكار الذات المتمركزة على صورة البطل المخلّص ، الذي يظهر في وقت يراد منه أظهار الانتصار والقوة والسيطرة على الآخر المهزوم .
إنَّ التركيز على إعادة خلق البطل المخلّص في الملاحم اليونانية القديمة ، تعد عملية تتمحور حول فكرة إنتاج ذات قوية تعيد للماضي أمجاده في صياغات جديدة تشكل النواة الأساسية للبعد المفاهيمي للمعطى الجمالي ، وبناء صورة مكملة تنطلق من بطولات الماضي ذات البعد الحضوري في دلالة تعمل على إعادة أنتاج الوعي بذلك التاريخ والتذكير به متى ما ضعف في الذاكرة الجمعية اليونانية، أو بث ظهوره المتكرر للماضي في صورة البطل الفردي القاهر الذي أصبح ملهماً للجماعة في ظهور ثاني وبروز هذه الجماعة التي استمدت من البطل حضورها . ويعني إعادة خلق (آخيل) على مستوى الذات الجمالية المؤسسة ، هو ذات بعد دلالي في البناء القصدي في الفكر الغربي وميتافيزيقياه المتمركزة في الذاكرة ذات البعد التوليدي للبطل والبطولة في مراحل أخرى متقدمة . بحث (هوميروس) عن معاني معينه في بطله وفي ما يقدمه للإغريق في ذلك العصر ليشكل من خلالها هوية خاصة لصورة البطل من خلال معايير خاصة بالصورة الملحمة لديه ” فقد أستخدم تعبير الرائع ، التناسق ، الجمال ، ففي رأيه كل ما هو جميل ومتناسق ورائع هو واقعي يستطيع الإنسان أن يفهمه ويلمسه بحواسه ، فالفن عنده حرفة “، توظف لهذا الفهم في التكوين الجمالي للهوية في بعدها التاريخي وغائيتها في المقصد لمراد اظهاره فيما بعد في التمركز الغربي .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.