داود السلمان يكتب | كتّاب شكلوا علامة فارقة (4-5)

0 153

7: كولن ولسون.. الأديب الذي صقلته المعاناة
لعلّ التجارب وحدها لا تخلق من المُبدع أن يكون مبدعًا، ولا الاصرار والتعلم ورسم الهدف مسبقًا، وحده أيضًا أن ينبلج صبحه عن ولادة حاذق ينتج أدبًا أو عِلمًا أو فلسفة.
كلُّ هذا لا ننكر بأنه قد يحقق المطلب المرجو، لكنّه عاجز بعض الشيء من ناحية أخرى، أو إنّه لا يسد الرّغبة الملحّة، والطموح لدى الشخص الذي ينوي أن يخوض في مياه النتاج الفكري، ويسبح في تيارها الجارف، وبكل أنواعه وتفاصيله.
لكن، ثمّة نقطة جدًا هامة في هذا السّياق، الذي نبحث في جذوره، لنصل، بالتالي، إلى هذا الهدف الذي نحن بصدد الوصول اليه.
إنّ المعاناة والحرمان هما من يصقل موهبة الكاتب والمبدع، ويحفزانه على الاصرار والتواصل، بقطع كلّ أحابيل الاحباطات، والعزم على الاصرار والمثابرة، ورمي الهدف بمقتل.
ونرى إنّ هذا الذي قلناه هو ينطبق بجذوره وتفاصيله على الكاتب كولن ولسون؛ لأنّه عانى أشدّ المعاناة (وهذا ينطبق على جلّ المبدعين)، أولاً من عدم إكماله تعليمه الاكاديمي، نتيجة الظروف المادية التي عصفت به وبأسرته، أضافة الى عدم انسجامه مع المدرسة حيث كان يهرب منها ويذهب الى المكتبات العامة، لشراء الكتب الادبية والفلسفية، فيعكف على قراءتها والرشف من أريجها المنعش، وهو يعدها أفضل من الدروس التي يتلقاها من المعلمين والأساتذة. فخصص أوقاته للقراءة وفي نفس الوقت العمل لسّد احتياجات الاسرة.
فهل نجح، بهذا التواصل والاصرار على المطالعة، والتزود من معينها العذب؟، ونال ما كان يصبو إليه، وتحقق طموحه المشروع في الحياة التي بذل فيها كلّ جهده، وحرم نفسه من أبسط الأشياء، خصوصًا مثله؟، كشاب طموح يتمنى أن ينجح وأن يعيش حياة مثالية، نليق بكرامته، اسوة بالرجال العظماء، الذين قرأ عنهم بما فيه الكفاية.

والجواب على هذه الأسئلة لا يحتاج إلى تفكير عميق، أو إلى صفنة طويلة وغور في التأمل. فالنتاج الفكري الذي تركه للأجيال فهو يكفي، ويسد رمق السائل.
كان أول كتاب ألفه وهو بعمر الأربعة والعشرين، وهي ريعان الشباب، وأوج العطاء الباذخ في النتاج الفكري. وكان بعنوان “اللامنتمي” وفي حينما نال، هذا الكتاب الشهرة الواسعة، في سوح الثقافة والفكر، حتى إنّ الكثير من المعنيين بحراك الفكر، شككوا بقدرة هذا الشّاب على الكتابة والتأليف، لكنّه فاجئهم بآخر ثم اتبع الآخر آخر، وهكذا راح ذهنه تدفق وينطلق كشعاع في حقول كثيرة من حقول المعرفة، فلم يقتصر على حقل واحد بعينه، إذ كتب في الرواية، فانتج العديد من الروايات الناجحة، ثم في الفلسفة، وفي البحوث الأُخرى التي تناولت قضايا كادت أن تكون معقّدة، ويحتاج الذي يروم الخوض فيها الى الاتزان الفكري والى الاسترخاء الذهني والمعرفي، وكذلك إلى الباع الطويل في الخبرة المتواصلة في النظر والامعان وعمق الأشياء.
وكأنّه هو من أمتلك ناصيتها، وسار على جادتها وخبّر أسرارها، وقطع شوطها، فنال ما أراد تحقيقه، حيث تصدّرت أعماله قائمة المبيعات، في حينها، وصارت تضاهي أعمال كبار الكتاب والعلماء.

8: سّمة العبقرية عند ماركيز
العبقرية الفذة التي تمتع بها غابريل غارسيا ماركيز، لم تأت عن فراغ، فالرجل كان يعمل بالصحافة كحرفة، أحبها فسار على دربها، بما فيها من وعورة ومخاطر، كما يحلو للبغض أنْ ينعتها بهذه النعوت.
النجاح الذي تحققه صاحب “مائة عام من العزلة” في مجال الصحافة يبطل النظرية التي ترى بأن “الصحافة مهنة المتاعب”، بل الذي يحب العمل في ربوع صاحبة السيادة هذه، أو السلطة الرابعة كما يُطلق عليها، فأنّه حتمًا سيبدع، بالتالي، سيبذل جهودًا استثنائية، وبها يحقق النجاحات المرجوة، أنْ تحقق له الأمر، أما الكسول المتقاعس، فحتما سيرى ثمّة معوقات ومخاطر لا يستطيع أن يقف بالضد منها.
والواضح، أنّ ماركيز هو ليس الأديب الوحيد الذي عمل بالصحافة وأتخذها حرفة، بل هناك الكثير من الفلاسفة والأدباء والمفكرين سبقوه بذلك، ففيلسوف كماركس، وكيركيجار، و دوستويفسكي، وامثالهم الكثير عملوا في هذا المهنة الجليلة، وكانوا متمسكين بها. وربما هي من أوصلتهم الى ما وصلوا اليه من نجاحات على مستواهم الفكري والابداعي.
وكما ذكرنا، إنّ أول نتاج ابداعي قدمه هذا الأديب الكولومبي كان رواية “مائة عام من العزلة”، وكان هذا العمل بمثابة فتح جديد في عالم الرواية، حيث مزج فيه الكاتب بين الواقع الملموس وبين الخيال الخصب، وهذا الامتزاج ولدّ حركة ديناميكية في مساحة ذهنه، حيث ظهرت في نصوصه، ومن خلال السّرد وتحريك الشخوص، بطريقة غير مُتبّعة، بعض الشيء، بما هو معلوم لدى كتّاب كبار لهم طريقتهم في السّرد الوصفي والحكائي في تقديم اعمالهم الروائية.
وفي حينها، بل وإلى الآن يرى الكثير من النقّاد، أنّ هذه الرواية لا تشبه أي عمل من الأعمال الروائية الأخرى فهي لا تشبه إلّا نفسها، في متنها وفي أطارها العالم، وفي بنائها الروائي.
ثم اعقبها بأعمال أخرى لا تقل شأنًا وأهمية، من حيث الجمالية الابداعية، عن سابقاتها، من الأعمال التي قدمها هذا الأديب، وكلها تنم عن ابداع فذّ.
وعلى إثرها، حصل ماركيز على نوبل، وهي أعلى جائزة عالمية تُمنح كل عام للشخص الذي يقدّم للبشرية اعظم ما يقدم من علوم وآداب ونظريات أخرى تخدم المجتمعات، وعلى كافة المستويات العلمية والثقافية والابداعية.
إنّ الرجل كان يتمتع بفكر متقدّ وذهنٍ منفتح، وأعتقد كانت الصحافة لها دور صقل موهبته، فالأحداث العينية التي كان يتقصى حقائقها، بل والمغامرة التي كان يهرول خلفها، وكذلك سرعة كتابة التقارير التي يسهر على انجازها، بهدف نشرها بأسرع وققت ممكن، كل هذا وغيره، له الحافز الاكبر في اتقاد ذهنيته الادبية، فنرى مثلا في “الحب في زمن الكوليرا” كيف مزج الأحداث وأطرها بقالب صلب، ما جعل القارئ ينشد مع السرد، فهو سارد كبير، ميزته أن يعطي مساحة كبيرة في تفاصيل الأحداث دون كلل ولا ملل.
وحتى النهاية السعيدة التي رسم ملامحها، كانت عبارة عن صناعة لجمال فاره، من خلال عاشقين مسنين، كاد الزمن أن يطفأ جذوتهما، وبعد أن تقطعت بهما سبل الوصال، يتزوجا، أخيرًا، ويستأنفان الحياة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.