حسن مدن يكتب | الحديقة والأدغال
لغةً؛ فإن الحديقة هي كل أرض ذات شجر مثمر، ويقال حديقة خميلة، أي كثيرة الشجر، وحديقة دهماء أي أن لونها ضارب إلى السواد لشدة اخضرارها وريّها، وأسمى عبد الرحمن منيف روايته عن تحوّلات العراق «أرض السواد» قاصداً المعنى نفسه لما عُرف به هذا البلد من كثافة النخيل، وفي وصف الحديقة شعراً قال صفي الدين الحلي: «وأطلق الطير فيها سجع منطقه/ ما بين مختلف منه ومتفق/ والظل يسرق بين الدوح خطوته/ وللمياه دبيب غير مسترق/ وقد بدا الورد مفتراً مباسمه/ والنرجس الغض فيها شاخص الحدق».
هذا عن الحديقة، أما الأدغال، ومفردها دغل، فهي الوطيء من الأرض، ومنها الصحراء بصيفها الحار والجاف وشتاؤها البارد والرطب، وليت اللغة وقفت عند هذا، بل إنها قالت أيضاً إن الدغل هو الشجر الكثيف الذي يُتوارى فيه للختل والغيلة، فحين نقول أدغل به نعني خانه واغتاله ووشى به، وأدغل في الأمر، أي أدخل فيه ما يفسده، ودغل فيه، أي دخل دخول المريب.
هذه المقدمة «اللغوية» في التفريق بين الحديقة والأدغال ضرورية كي نقف عند تصريح مفوض الأمن والخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي شبّه أوروبا بحديقة، والعالم من حولها بأدغال يمكن أن تغزو الحديقة الجميلة، ولكم أن تخالوا كمّ الغطرسة والاستعلاء والعنصرية في هذا التصريح الذي جاء في كلمة ألقاها بوريل، خلال افتتاح الأكاديمية الأوروبية للدبلوماسية في مدينة بروج البلجيكية.
قال بوريل: «أنشأنا هذه الحديقة جميعنا، فيها أفضل مزيج من الحرية السياسية والآفاق الاقتصادية والتماسك الاجتماعي… بقية العالم ليس في الحقيقة حديقة. معظم بقية العالم أدغال، وقد تغزو الأدغال الحديقة»، مضيفاً أنه «يتعين على أوروبا أن تكون منتبهة لمثل هذا الوضع وتعتني بحديقتها».
صحيح أن الرجل قال إنه لا ضمان لحديقته الغنّاء أن تبقى كذلك، ولكن هذا الاستدراك جاء بعد عبارات تفيض منها تعابير الاعتداد بالذات وازدراء الآخر: «نحن أناس متميزون، لقد أنشأنا مزيجاً من تلك الأشياء الثلاثة: الحرية والآفاق الاقتصادية والتماسك الاجتماعي»، متجاهلاً مسؤولية بلدان قارته في جعل بقية العالم مجرد أدغال وفق منظوره، والأهم من هذا، متجاهلاً لحقيقة أن قارته – الحديقة غدت مأزومة، فيما الكثير مما يراها مجرد أدغال تنمو وتزدهر وتنافس وتتحدى باقتدار.