أحمد حمدي سبح يكتب | الدعاء بين الوهم والحقيقة

0

قال تعالى…. إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) سورة البقرة.

بعيدآ عن تجار الدين الذين يتفنن بعضهم في اختراع وتأليف قصائد وأشعار سموها أدعية وتسميتها بأسماء رنانة من قبيل دعاء فك الكرب ودعاء الرزق ودعاء سداد الدين ودعاء النجاح…….. الخ ، ويبيعونها كتحميلات على الهواتف النقالة أو يستأجرهم مجموعة من رجال وسيدات الأعمال في مجالسهم أو مناسباتهم أو حتى في بعض المساجد ليتباكوا وهم يرددرن هذه الأدعية ويلقونها على مسامع هذا وذاك من المغيبين أوالمخدوعين أوالسذج، وقبلهم من قاموا منذ زمن بعيد باختراع أحاديث وأدعية ونسبوها للرسول محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من كان يظن أنه يحسن العمل لصالح الدين ومنهم من كان يخترعها ليرددوها في مجالس السلطان انتظارآ لمكرمة أو جاه.

بعيدآ عن كل ذلك، فإنه ليس معنى الدعاء عند الله أن ندعوه لأغراض الدنيا ومتاعها أو حتى لشفاء من مرض أو لنجاح في دراسة أو عمل، بل معناه هو دعوة لاستحضار الله في ذات الإنسان بمعنى تحكيم الضمير الحي والعقل الواعي في التصرفات والسلوكيات والأقوال والامتناع عن ارتكاب السئ من الأفعال أو التقول بالفاسد والمفسد من الأقوال .

واتباع صوت العقل الواعي والضمير الحي وعدم التهاون مع النفس الأمارة بالسوء اتساقآ مع قوله تعالى…وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) سورة الشمس.

لذلك قال عز وجل في نهاية الآية 186 من سورة البقرة ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ، أي أن نستمع لصوت الله في ضمائرنا وعقولنا ، وصوت الله لا يصدح في الضمائر الخربة والعقول الفاسدة اللئيمة، وبالتالي نسير على هدى الضمير الحي والعقل الواعي مزكين النفس الزكية لا خائبين وراء النفس المدسوسة الضالة ذات الضمير الميت والعقل الفاجر .

والجانب الآخر لهذا التفسير دونما تناقض وتغاير ، أن الدعاء في وجهه الآخر برفع أكف الدعاء إلى الله إنما ينحصر في طلب الإعانة على فعل الخيرات و انتباذ الخطايا ورذائل الأفعال. ، وهذا في حد ذاته كنوع من الرباط يربط به المؤمن نفسه ويشد بذاته عضده أن لا ينجرف إلى طريق الرذيلة وأن يستمر سائرآ ساميآ في طريق الحق والعدل والفضيلة ، فكيف سيخاطب ربه وهو مصر على دونيته وأدنياء أفعاله وخبائث أقواله كيف يطلب من ربه أن يسمعه وهو على هذه الحال مستمرأً ظرفه ومنواله ، فكان دعوة الله للمؤمنين بالدعاء إنما هي محض وسيلة يلجم بها المؤمن نفسه أن يلج المعاصي والخطايا بأن يسأل نفسه كيف سأخاطب ربي وأدعوه لعوني الى الجنة وأنا سأقدم على فعل هذا أو أحمل وزر ذاك؟!!.

فالدعاء هنا تمامآ كوظيفة الصلاة التي أمرنا بها المولى عز وجل ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(45) سورة العنكبوت، فالصلاة وظيفتها إنما هي رباط يمنعنا عن الفحشاء والمنكر والبغي فإن لم نمتنع فلا داعي لها أصلآ، فصلاة الفاسد والظالم والخائن غير مقبولة أصلآ، وكيف لهم أن يدعوا الله أصلآ أو يذكروه في ذواتهم وهي في دروب وكهوف غواياتهم يعمهون، بل ان سورة الفاتحة التي نقرأها في كل ركعلات الصلاة ما هي إلا دعاء بالهداية للصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم وغير مغضوب عليهم، فالدعاء والصلاة هما حاجزين أنعما الله بهما علينا لعلنا لا نقع في المعاصي ونلوذ بهما من غواية الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، لا لطلب خير ومتاع في الدنيا فإن لم يتحققا ظننا أن الله متخل عنا ومنحنا أعداء الدين ورافضيه ذريعة للإساءة للدين.

إن الفاسد والظالم لن يدعوان الله للهداية واصلاح طريقهم الا إذا شاؤوا مصداقآ لقوله عز وجل… إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) سورة القصص ، والمفهوم الطبيعي لاستحضار الله في الذات لا يقوم على المشيئة التي تقف عند حدود النية والرغبة فقط بل ان استحضار الله في القول والتصرف، لا يتطلب المشيئة الانسانية فقط بل يتجاوزها ليندمج معها الندم والاقرار بالذنب ورد المظالم لأهلها وهذا هو الشرط الأساسي لقبول التوبة وعدم معاودة ممارسة هذه الأفعال السيئة على أنواععةا المختلفة.

لذلك فالمشيئة ( وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) هنا عائدة على الراغبين في التوبة والخروج عن طريق الظلم والضلال، وذلك بعد رد المظلم لأهلها وليس استمرار التمتع بما جنته أياديهم واستمرار معاناة الناس والمجتمع بما باءت به قرائحهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.