أحمد فاروق عباس يكتب | زيارة إلى المتحف المصري

0

ذهبت اليوم إلى المتحف المصرى بميدان التحرير.. انتهزت فرصة أن اليوم اجازة ، وقررت أن اقضى اليوم مع مصر القديمة.. قرأت لبعض الوقت فى كتاب هنرى بريستيد الشهير ” إنتصار الحضارة.. تاريخ الشرق القديم ” لكى أعيش فى جو المكان الذى أنا ذاهب إليه.. وهو كتاب وضعته على الموبايل منذ أكثر من أسبوعين لقراءته فى أوقات الفراغ من امتحانات الفصل الدراسي الأول ، واستعدادا للذهاب إلى الأقصر في إجازة منتصف العام.. لم أقرأ من الكتاب صباح اليوم سوى صفحات محدودة ، فلم يكن الوقت كافيا ، وبعد صلاة الجمعة ذهبت إلى المتحف المصرى ، ودخلته في الساعة الواحدة والنصف.. واخذتنى الزيارة إلى روائع الفن المصرى القديم ، تماثيل ونقوش مذهلة ، وتنقلت بين القاعات ، وبين العصور الفرعونية المختلفة وما تركته وراءها من أثر.. بدءًا من آثار وبقايا الدولة القديمة ، التى ترجع إلى ٢٧٠٠ سنة قبل الميلاد، أى أن بيننا وبينها ما يقترب من خمسة آلاف سنة!! هل يتخيل إنسان أشياء باقية تتحدى الزمن والأيام لمدة خمسة آلاف سنة؟!
ثم أثار الدولة الوسطى والدولة الحديثة ، وما بينهم من فترات انتقال طويلة ، اضمحلت فيها سلطة الدولة فى مصر ، وانهارت فى بعضها ، وهو ما سمح بسيطرة الأجناس الآسيوية ( الهكسوس ) أحيانا أو سيطرة الليبيين أو الاشوريين أو الفرس على مصر.. كان هناك كثير من السياح الاجانب ، كما كان للمصريين وجودهم ، واعجبني أن هناك شبابا في العشرينات مهتم بتاريخ بلاده القديم.. لفت انتباهي أثناء تجوالى فى المتحف الكبير اهتمام المصرى القديم بالخلود ، سواء الخلود في الحياة الأخرى ، أو الخلود فى الدنيا ، بطول الذكر وبقاء السيرة.. فهو يريد ذكرا باقيا على طول الزمن ، يتضح ذلك من الكم الهائل من الأعمال الفنية البارعة ، من لوحات وتماثيل وأوانى وكل دقائق الحياة اليومية ، والتى تحَّدت بدورها العصور الطويلة ، ووصلت بهم إلى الخلود الذى كانوا يطلبونه ..
شئ مذهل حقيقة .. إن حضارة كاملة أرادت نقل كل ما لديها الى أزمنة آتية ، حتى ما يحدث في الحياة اليومية العادية ، ودفنه في القبور أو إقامته فى المعابد والقصور ، لكى تقص قصتها لمن يأتى بعدها .. ونزعة الإنسان وبحثه عن البقاء والخلود نزعة متأصلة فيه ، بحث عنها في الدين ، وحتى قبل الأديان السماوية كانت العقائد الأرضية تتكلم عن حياة أخرى للإنسان بعد مماته .. وبحث عنها في نسله ، ونزعة الرغبة في إنجاب الولد الذكر ، الذى سيطيل ذكر والده وأجداده في الدنيا .. وهى نزعة متاصلة في الحضارات الشرقية عموما ، أكثر من وجودها في الحضارات الغربية ، اليونانية والرومانية قديما ، وغرب أوربا وأمريكا اليوم .. وهى حضارات – باستثناء اليونانية – اهتمت بالقوة واكتسابها ، ورأت فيها معنى أكبر من مجرد الخلود فى أروقة المقابر أو على جدران المعابد .. وقد ذكرنى منظر التماثيل التى تنبض بالحياة ، والنقوش الملونة والواضحة حتى اليوم ، والأوانى والمشغولات وأدوات المائدة والصيد ، ذكرنى كل ذلك بقصيدة شوقى التى يقول فيها :
أَفضى إِلى خَتمِ الزَمانِ فَفَضَّهُ .. وَحَبا إِلى التاريخِ في مِحرابِهِ / وَطَوى القُرونَ القَهقَرى حَتّى أَتى.. فِرعَونَ بَينَ طَعامِهِ وَشَرابِهِ
لا أعرف لماذا تذكرت أيام ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ، عندما حاولت مجموعات مجهولة الإعتداء على المتحف المصري ، وفعلا سُرقت بعض المحتويات ، وكُسرت مقتنيات أخرى لا تقدر بثمن .. لقد كنت متعاطفا جدا مع ثورة يناير ، وشاركت فى بعض أحداثها منذ يومها الأول ، لكن لم يعرف النوم طريقه إلى عينى فى الليلة التى تم فيها الإعتداء على المتحف المصري .. وفى تلك الليلة ظهرت أمامى أول السلبيات ونواحى الخطر فيما حدث لمصر يوم ٢٥ يناير وما بعده ، قبل أن تتكشف أمامنا – مع مرور السنين – المعنى الحقيقي والغرض النهائى لما حدث فى مصر فى ذلك الشتاء منذ ١٢ سنة ..
ظللت في المتحف حتى الساعة الخامسة ، وهو موعد نهاية العمل بداخله ، وقضيت الوقت كله فى الدور الأول ، ولم أجد وقتا للصعود إلى الدور الثاني ، وتركته لزيارة أخرى .. وكان مازال يرن في سمعى كلام أحمد شوقى وحديثه عن المصريين القدماء في القصيدة التى كتبها عن اللورد كارنافون ، وهو ممول رحلات هوارد كارتر ، التى انتهت بأهم الاكتشافات الأثرية في التاريخ .. مقبرة توت عنخ آمون:
ما ماتَ مَن حازَ الثَرى آثارَهُ .. وَاِستَولَتِ الدُنيا عَلى آدابِهِ
قُل لِلمُدِلِّ بِمالِهِ وَبِجاهِهِ … وَبِما يُجِلُّ الناسُ مِن أَنسابِهِ
هَذا الأَديمُ يَصُدُّ عَن حُضّارِهِ .. وَيَنامُ مِلءَ الجَفنِ عَن غُيّابِهِ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.