رامي جلال يكتب | الخيانة طبع والنذالة سلوك

0

من المؤكد أن العامل الأكثر حسمًا في تغيير وقائع التاريخ هو “الصدفة” يليه “الغباء” بما يشمله من منظومة عقلية تضم صفات مثل “العناد” و”الغرور” وغيرها. وهذا موضوع كتاب شيق للغاية للكاتب والفيزيائي النمساوي “إريك دورتشميد”. لكن مع الاعتذار للنمساوي العزيز، أعتقد أن العامل الأخطر والأكثر عمقًا هو فكرة “النذالة”. والتي للأمانة من الممكن اعتبارها واحدة دروب غباء الطرف الضحية، لكنها في ظني بابًا مستقلًا من أبواب تغيير مجرى أحداث التاريخ.
الحمد لله على الفقر والجدعنة، فمن المعروف تاريخيًا أن “الندالة” ليها ناسها، ونسعى ألا نكون منهم، وكان الأديب الجميل “محمد عبدالحليم عبدالله” يقول: “الرجال معادن، بعضهم يذوبون في درجة حرارة لا تتجاوز العشرين، والبعض الآخر يصمدون إلى درجة الخمسين، ولكن قلة منهم لا يذوبون حتى في الفرن الذرى، وحين يذوبون يتحول فحمهم إلى ماس”.
التاريخ ممتلئ بالخونة والأنذال، فـ “بروتس” قتل أستاذه، و”يهوذا” سلّم معلمه، و”خاير بك”، الذي سماه المصريون “خائن بك”، خان “قنصوة الغورى” وسلّم مصر للعثمانيين في معركة “مرج دابق”، مثلما فعل “أبوغربال” الذي دل “أبرهة الحبشي” إلى مكة ليهدم الكعبة، فضربت العرب المثل في الخيانة “بأولاد غربال”.
بمناسبة “قنصوة الغوري”، فإن نائبه “طومان باي” كان قد توسط لديه لإطلاق سراح شيخ قبائل العربان الذي وضعه “قنصوة الغوري” في قبو تحت الأرض وكتب على معصمه: “من القبو إلى اللحد”، والعجيب في الأمر أنه بعد هزيمة “طومان باي” في موقعة “الريدانية”، هرب ولجأ إلى صديقه شيخ العربان هذا، فما كان من هذا الصديق الشهم إلا أن رحب به عرفانًا بالجميل وقال له: “انتظر هنا يا صديقي، وأهلًا وسهلًا بك”، ثم ذهب وأحضر له سليم الأول ليشنقه!!
يبدو أن أولاد غربال وأتباع شيخ العربان لا يزالون بيننا إلى الآن، يقبعون في كل مكان ممارسين هوايتهم في الخيانة والنذالة، فالخيانة طبع وليست حدثًا. ولا ينسى أحد نذالة “لاري هولمز” مع “محمد على كلاي”، فقد أحضره الأخير لـ “يتدرب فيه” بدلًا من كيس الرمال! فما كان من “لارى هولمز” إلا أن درس نقاط ضعف وقوة “محمد على” وتحداه بعد أربع سنوات وهزمه وانتزع منه لقب بطولة العالم!!
“محمد على كلاي” لم يقرأ عن “محمد على باشا” ليتأكد من أن الخيانة طبع والنذالة سلوك، وأن الرجال فعلًا معادن، فالأميرال التركي “أحمد باشا فوزي| كان شديد الجدعنة مع “محمد على باشا” وسلم له الأسطول العثماني عام 1839، وظل الباب العالي لسنوات يطلب من “محمد على” تسليمه، إلا أنه رفض بما عرف عنه من شهامة، ولكن بعد أربع سنوات (نفس السنوات الأربع!) انصهر معدن “محمد على” وقرر أن يضع حلًا لهذا الصداع فوسّط “زكى أفندي” حاكم الإسكندرية وقتها لعرض السم على “أحمد باشا” الذي امتثل وشرب السم في القهوة فمات بعدها بساعات بالسكتة القلبية!
أن تكون “خايب” خير من أن تكون “خاين”، فماذا لو كنت الاثنين معًا؟!! عمومًا لا أحد يمكنه أن يقهر جبلًا إذا وقف على قمته لدقيقة لأن الريح ستمحو ببساطة أثر قدميه ويبقى الجبل!! وعلى رأى “عرفات”: “يا جبل ما يهزك ريح”، ويقول “ابن عروس”: “الندل ميت وهو حي، ما حد حاسب حسابه”.. أما “أمية بن أبى الصلت” فيقول بحزن: “أعلمه الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رماني .. وكم علمته نظم القوافي، فلما قال قافية هجاني”. حتى “ليلى مراد” قالت: “يا خاين مالكش أمان”.. فالبعض لا يقيم اعتبارًا للعيش والملح إلا على السفرة! والخلاصة هي: اتق شر من أحسنت إليه، فإذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.