د. عبدالله عيسى الشريف يكتب | أبعاد ومتطلبات الصناعات الثقافية

0

تعني الثقافة في معناها العام باستجابة الإنسان لإشباع حاجاته ورغباته، من خلال نماذج معيشية ناتجة عن الإبداع الإنساني، وهي نماذج مُكتسبة يصل إليها الفرد إما بالتفكير وإعمال العقل كاستجابة للبيئة التي يعيش فيها والمحيط الثقافي الذي يحيا فيه وينهل من قيمه وأفكاره، أو عن طريق النقل من المجتمعات الأخرى، وبما يشير إلى أن الحراك الثقافي ذو طبيعة أفقية من خلال الانتقال من مجتمع لآخر على المساحات المشتركة للحضارة الإنسانية، فضلاً عن أن الثقافة بطبيعتها تتحرك رأسياً في إطار نفس المجتمع حين تنتقل من جيل إلى جيل مع القابلية للإضافة والحذف والتعديل والتغيير. في حين أن الثقافة بمعناها الضيق تُعرف على أنها مُجمل الأنشطة الفكرية الإبداعية والفنية التي يمارسها الإنسان، ممثلةً في الآداب والفنون كأبرز أشكال الإنتاج الفكري.
وفي الوقت الذي يرتبط فيه مفهوم الصناعات الثقافية بالمعني الضيق للثقافة من حيث بعض الأنشطة الفكرية والإبداعية للإنسان، فإن الصناعات الثقافية تعتبر من أسرع الصناعات نمواً في العالم، باعتبار أنها خيار إنمائي مُستدام يعتمد على مورد فريد ومتجدد هو الإبداع البشرى في مختلف أوجه الصناعات الثقافية: السينما والمسرح، والموسيقى، والفن التشكيلي، والإذاعة والتليفزيون، والنشر، والكتب، والحرف التراثية.
ولما كانت الصناعات الثقافية تقوم على الأعمال الثقافية الموجهة إلى الجمهور، فإنها تتشابه مع الصناعات الحديثة من حيث الاستفادة من التحديث والثورة الصناعية في الماضي، وكذا من ثورة الاتصالات والمعلومات في الوقت الراهن. ويتضح ذلك من خلال العلاقة بين المُنتج الثقافي والمُتلقي، حيث خرجت طرق إنتاج الأعمال الإبداعية من عباءة الدور الرئيسي للمبدع في إخراج مُنتجه الثقافي بصورته النهائية، لتصبح قضية الصناعات الثقافية عملية مركبة يشارك فيها آخرون، فضلاً عن تلاشي الاتصال المباشر بين المُبدع والمُتلقي ليحل محله الاعتماد على آليات السوق لنقل المُنتج في صورته النهائية للجمهور المُستهدف.
فالثورة الصناعية كان لها عظيم الأثر في تطور التصنيع الثقافي، فمثلما لعب التصنيع دوراً رئيسياً في تعزيز قدرة المجتمعات الحديثة على توليد الثروة مقارنةً بالمجتمعات التقليدية، فإن التصنيع في صبغته الثقافية احتل المرتبة الأولى في مسببات التطور الكبير في القدرة على خلق وتوليد الثروة الفكرية والإبداعية والفنية في العصر الحديث، وعلى فتح آفاق أرحب للتواصل بين المُنتج والمُتلقي للعمل الثقافي، علاوةً على تغيير نوعية وصفات المُتلقين، فلم تعد نخبوية في تكوينها وسماتها وإنما تحولت إلى جماهيرية في حدودها وملامحها الشخصية.
وقد أدى ذلك الانفتاح في الفضاء العام، إلى تعاظم تأثير الصناعات الثقافية نظراً لتطور محتواها، وتوسع جمهورها المُستهدف، وتغير رسالتها بمرور الوقت، بمختلف أنماطها وأشكالها. فسيادة الصناعات الثقافية وتحولها من عملية بسيطة في الإنتاج الثقافي، لتصبح عملية معقدة مُركبة لما تحتويه من عناصر ومكونات؛ تتعلق بالمادة الخام للمُنتج “الإنتاج الفكري/ العمل الإبداعي”، فضلاً عن مرحلة التصنيع بكل ما تحتويه من تنظيم ورأس مال وقوة العمل ووسائل الإنتاج، مروراً بالحصول على المنتج الثقافي في صورته النهائية، وصولاً إلى عملية التسويق والانتشار، بكل ما يحمله ذلك من تغذية عكسية على مدخلات عملية التصنيع الثقافي.
هذه التغذية العكسية ضرورية ومحورية، حيث تقوم على ما أفرزته مخرجات الصناعات الثقافية من تحولات اجتماعية وفكرية وثقافية في المجتمع المُستهدف، خاصةً وإن كان محتواها يمس منظومة القيم والأفكار السائدة في هذا المجتمع. ويزيد من أهمية هذا المسألة، ما أحدثته ثورة المعلومات والاتصالات من تطورات في بنية المعرفة ووسائل إكتسابها، وتداخل المُنتج الثقافي والمعلوماتي والإعلامي وكذا الترفيهي، بالإضافة إلى سيطرة أشكال الإنتاج الثقافية عابرة للقوميات، دونما النظر لحدود الدولة القومية واحترام سيادتها وهويتها الوطنية وخصوصيتها الثقافية، لنصبح أمام أنماط عالمية ثقافية لها علاقة وثيقة باحتمالات الهيمنة الثقافية للدول الكبرى نتيجة فرض أنماطها الثقافية بصورة كونية.
وطالما كان الوضع كذلك، وبالنظر لتأثيرات العولمة وما فرضته من فرص وتحديات على كلاً من الدولة والمجتمع، فالواقع يُحتم أن نتعايش مع هذه التطورات العالمية، والاستفادة من الثورة التكنولوجية، دونما الإنعزال/الانغلاق عن هذه التطورات والاصطدام مع معطيات وروح العصر الحالي، خاصةً وأننا نمتلك نموذج ثقافي له خصوصيته الفريدة، وعمقه الحضاري التاريخي، الذين يضمن له فرص الانتشار والتوسع عالمياً، شريطة أن يتم بلورة رؤية وطنية لتناول أبعاد ثورة المعلومات والاتصالات وتأثيراتها في الثقافة الوطنية، وإعادة النظر في تنظيم المجتمع وكيفية استغلال موارده المُتاحة لتحقيق النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والتنمية السياسية.
فالدولة ليست المسئول الأوحد عن تحديث المنظومة الثقافية الحاكمة بقدر ما تقع المسئولية الأولى على المجتمع بمختلف فئاته ومكوناته، خاصةً وأن هناك ضرورة لتغيير المفاهيم الأساسية الحاكمة لسلوكه والدافعة لتطوره أو كمونه. فالمعرفة هي كلمة السر في العصر الحالي، حيث توصف بأن “المعرفة قوة”، والصناعات الثقافية كأحد مخرجات / مدخلات الوعاء المعرفي تعتبر منتج استراتيجي له أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية وحتى أمنية، ويقوم على متطلبات ضرورية للبقاء والنمو بعيداً عن القيود المجتمعية وما تفرضه من دعاوي أغلبها دينية تسعى لفرض صور وأنماط ذهنية على المجتمع تعيق تقدمه ورخاؤه.

عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين- شباب سياسي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.