د.رامي جلال يكتب | الوداع واللقاء الثاني

0

نمر في حياتنا بالعديد من لحظات الوداع، سواء كانت وداعًا لشخص عزيز، أو لمكان نحبه، أو لمرحلة معينة. القاسم المشترك هو الشعور العميق بالفقد. تجربة إنسانية فريدة تطبع فينا ذكريات الماضي وحسرات الحاضر وتطلعات المستقبل.

الوداع تذكير لنا بأن الحياة قائمة علي التغيير وفتح أبواب جديدة. وهو يحمل في طياته مشاعر مختلطة من الحزن والفراق، ولكنه في الوقت ذاته يمكن أن يعبر عن الأمل في لقاء جديد. ودائمًا ما كان اللقاء الثاني ذو سحر عظيم.

منهزمًا على شاطئ الفلبين بفعل القوة اليابانية المفرطة، ووسط فلول جنوده، التفت القائد العسكري الأمريكي “دوجلاس ماك آرثر” إلى الأرض التي يوشك أن يغادرها قائلًا كلمته الشهيرة “سأعود”، وقد عاد بالفعل بعد عامين، وحينها قال وهو على الشاطئ نفسه: “لقد عدت لكم”. حقق وعده الذي لم يصبح مثل “حق العودة” الفلسطيني الضائع، أو مجرد تمنٍ كقول السيدة فيروز “سنرجع يومًا لحينا”.

“آرثر” هو بالذات من تسلم بعد ذلك وثيقة استسلام اليابان على ظهر البارجة الأمريكية ميزوري في خليج طوكيو، ثم ساعد بعدها بفعالية في بناء الدولة اليابانية، على الطريقة الأمريكية، خلال النصف الثاني من عقد الأربعينات. وبالمناسبة فإن والده هو “آرثر ماك آرثر”، أحد أبطال الحرب الأهلية الأمريكية، وكلاهما، الأب والابن، حصل، في حالة تاريخية فريدة، على “وسام الكونجرس للشرف”، وهو أعلي وسام حربي أمريكي، الأول في عام 1890 والثاني في عام 1942.

عودة “ماك آرثر” هي عودة مجيدة، وعمنا الراحل “سيد حجاب” لخص موضوع العودة الحتمية في تتر مسلسل “ليالي الحلمية” حين قال: “ومهما طال درب الهموم والمساخر، لا بد ما يعود المسافر لداره”. وهي تنويعات علي عودة “الغائب”، والذي تبعًا لصفاته فربما يُقال “عودة الابن الضال”، أو “عودة الندل”.

لعل أغرب عودة هي “العودة إلى المستقبل”، إذ إنه من المفترض أن نذهب له لا أن نعود إليه، وهو تركيب لغوي غريب يشبه “الصعود إلى الهاوية”، عمومًا نجح كلاهما كأفلام سينمائية؛ الأول من إخراج “روبرت زيميكس”، عبقري المؤثرات، والثاني من إخراج “كمال الشيخ”، هيتشكوك مصر.

يمكن لأي شخص أن يغنى: “ما أحلي الرجوع إليه، ولكن تختلف النوايا؛ فقد يُقصد حينها العودة إلى الله، والتي تُسمي توبة، أو العودة للحق والتي تُدعي فضيلة. أو قد يعني ببساطة العودة إلى المنزل والتي يقول عنها الأجانب (Home Sweet Home).

أيًا كانت الوجهة، فإنه حين يعود أحدهم إلى مكان يقول له أحباؤه “العود أحمد”، بينما يقول هو لنفسه “عود على بدء”. أما كارهوه فيقفون بعيدًا في انتظار “نوبة رجوع”. عمومًا الرجوع ليس أمرًا سيئًا دومًا؛ فعلي الرغم من أنه يعني التراجع للخلف، فقد لا يكون كله مضرًا، مثل رجوع الشيخ إلي صباه مثلًا، فالفرق كبير بين الرجوع والتراجع. وكما يحمل الرجوع في طياته غابات من “الإحجام”، فإنه يحمل كذلك بذورًا من “العودة”، الرجوع قد يكون ارتدادًا عن شيء محدد، وقد يمثل استئنافًا لأمر معين.

تبقي في النهاية أهم عودة هي عودة المياه إلي مجاريها، وأفضل رجوع هو الرجوع إلي الحق، وسواء كنا نتحدث عن العودة، أو نناقش الرجوع، فنحن بصدد الوصول إلي “اللقاء الثانى”، وهو لقاء له حرارته الخاصة؛ فيكون حارًا أو باردًا، وقد يكون وسطًا بينهما فيُقال “لقاء فاتر”… “اللقا نصيب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.