تامر عباس يكتب | أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق

0

يتساءل البعض عن الفرق ما بين قولنا ب(أخلاق الثقافة) و(ثقافة الأخلاق) ، لجهة ما تضمره تلك التعابير من دلالات معرفية وسوسيولوجية أصيلة قارة أو دخيلة مكتسبة ، لاسيما وان عملية التقديم والتأخير ما بين اللفظين المختلفين قمينة بتوليد الكثير من الانطباعات الذهنية المتضاربة التي قد لا تحمل السامع على التعاطي معها بجدية كافية أو باهتمام ملحوظ ، من حيث كونها تسوقه للاعتقاد أن مثل هذه التعابير والألفاظ لا تعدو أن تكون مجرد تلاعب بالألفاظ ليس إلاّ . وللإجابة على مثل هكذا تساؤل يمكننا القول ؛ ان لكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافة ما تعبر عن طبيعة معتقدات وعادات وعلاقات الأغلبية الساحقة من جماعاته ومكوناته ، والتي عادة ما تتموضع في بنية وعيها ونمط سلوكها على شكل ضوابط ومعايير يصعب إهمالها أو تجاهلها دون عواقب اجتماعية أو نفسية أو دينية ، بل وحتى سياسية في بعض الأحيان .
ولما كانت الثقافة بالأساس ظاهرة اجتماعية وإنسانية ، فهي مشروطة بالبنى الجامعة والأنساق الشاملة المسؤولة عن كينونة القيم المعيارية (الأخلاقية والرمزية) السائدة ، والتي يمكن اعتبارها بمثابة البوصلة الموجهة والمرشدة الى حيث ينبغي للمجتمع أن يحتكم إليها ويرتكز عليها ، حين تضطره الظروف الاستثنائية للمفاضلة بين الخيارات العديدة والتوجهات المتنوعة . من هنا لا يمكن تصور وجود (ثقافة) معينة من غير وجود معايير (أخلاقية) محددة ، لا تعكس فقط طبيعة الثقافة المحلية (الوطنية) الحاكمة لتصورات والضابطة لتمثلات مختلف مكونات المجتمع المعني فحسب ، وإنما تؤطر أنماط التواضعات العرفية والعلاقات الاجتماعية والسلوكيات الحضارية التي يتوجب على تلك المكونات الالتزام بها والانخراط فيها كذلك . هذا مع الإشارة الى أن هذه الكيفية السوسيولوجية والانثروبولوجية ، لا تقتصر فقط على المجتمعات المتطورة حضاريا”دون المجتمعات المتخلفة في هذا المضمار كما قد يعتقد البعض ، وإنما هي ظاهرة عامة تسري على الجميع وتطال الكل دون استثناء ، بصرف النظر طبعا”عن تنوع المضامين القيمية والاعتبارية والرمزية التي تحملها هذه الثقافة أو تلك للتعبير عن تفردها وتميزها .
وإذا ما تناولنا – في هذا السياق – دلالات العبارة الأخرى (ثقافة الأخلاق) للوقوف على الخصائص التي تميّزها عن نظيرها العبارة الأولى (أخلاق الثقافة) ، فإننا بذلك ننتقل من المستوى الجمعي / المعياري الى المستوى الفردي / الإجرائي . أي بمعنى ان مجالات البحث والتحليل ستنقلنا من صيغ التعاطي مع القيم والأعراف الخاصة بالمجتمع الكلي ، الى صيغ التعاطي مع أشكال ومستويات تمثل واجتياف (الأفراد) مضامين تلك القيم والأعراف ، كل بحسب تربيته الأسرية وتحصيله العلمي ووعيه الحضاري . وهو الأمر الذي يفسّر لنا واقعة التعدد والتنوع في حالات التباين والتغاير التي يعكس من خلالها أعضاء المجتمع مستوى تقبلهم لقيم وأعراف الثقافة من جهة ، ومدى التزامهم بالمعايير والضوابط التي تدعو لها وتحضّ عليها من جهة أخرى .
ولعله من الجدير بالملاحظة ؛ ان الأضرار التي يتوقع لها أن تتمخض عن الفساد في (أخلاق الثقافة) أقل وطأة على مصير المجتمع من تلك الأضرار الناجمة عن الانحراف في (ثقافة الأخلاق) ، كيف ؟! . ذلك لأن هذه الأخيرة تتعلق بطبيعة المواقف والسلوكيات التي يجسّدها الأفراد واقعيا”وفعليا”، إزاء ما تحاول الأولى ترويجه وإشاعته من قيم اجتماعية ومعايير أخلاقية وضوابط عرفية . إذ ليس كل ما تصوغه وتجسدّه (أخلاق الثقافة) على صعيد الوعي الجمعي يجري تمثله واجيتافه من قبل الأفراد والجماعات بكيفية متساوية ومتشابهة ، بما يضمن انسجامها التام وتوافقها الكلي مع مضامين تلك القيم والمعايير والضوابط . وإنما هي تتقاطع على نحو دائم مع العديد من التصورات والتأويلات والتمثلات والتعديلات ، بالقدر الذي تتقاطع فيها وتتعارض معها مصالح الأفراد والجماعات والمكونات التي يتشكل منها نسيج المجتمع . وهو الأمر الذي يؤول بالنهاية ليس فقط الى تصدع مدماك الوعي الثقافي وانهيار معماره الأخلاقي فحسب ، وإنما سيفضي – عاجلا”أم آجلا”- الى تفكك البنى التحتية المسؤولة عن ديناميات وسيرورات التطور الاجتماعي والحضاري برمته .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.