تشتبك الهوية مع كثير من الصراعات والنزاعات في عالم اليوم. في الجوهر، فإن الرغبة في الاستحواذ على الثروة والسلطة، هي أساس أو مفجر الكثير من النزاعات في الماضي، والحاضر أيضاً. من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نعرف نزاعاً بين الدول، أو بين الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد، لا يكون جوهره نزاعاً على الثروة والسلطة، ولكن ما أكثر ما يجري التمويه على هذا الجوهر، بتصوير النزاعات على أنها صراع بين الهويات.
والهويات هي من حيث الطبيعة ظاهرة ثقافية، يجري توظيفها في اتجاهات متناقضة، لخدمة أغراض سياسية ومصلحية. ففي ظروف الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي لأراضي شعب من الشعوب، وسرقة ثرواته، يلزم شحذ الهوية الوطنية، أو القومية، لهذا الشعب في مواجهة المستعمر أو المحتل الأجنبي، مع ما يلزمه ذلك من إبراز لخصوبة وأهمية هذه الهوية المستهدفة، واستنهاض لما تنطوي عليه من عناصر رفض ومقاومة للآخر، الذي يستهدف مصالح واستقلال الشعب المعني.
في حالة مثل هذه، نجد الهوية تميل إلى درجات من الانكفاء على الذات، حماية لنفسها مما يستهدفها من تحديات، مُظهرة كل ما يلزم من الحذر تجاه الآخر، الذي «يتمظهر» في صورة الخصم أو العدو، لتصبح ما يمكن أن نشبهه، أو نصفه ب «أسمنت» الوحدة الوطنية والقومية، حيث يفترض تجاوز التناقضات الداخلية داخل الهوية الواحدة، بإعادتها إلى مرتبة خلفية، والإعلاء مما هو مشترك ومُوحد بين المنتمين لهذه الهوية، وإن كانت بينهم فروق أو تناقضات ثانوية.
لكن، في ظروف أخرى، يمكن للثانوي أن يصبح رئيسياً، حين يشعر أصحاب الهويات أنه ما من خطر خارجي محدق يستهدفهم، ويُوحدهم ضده، فتعلو حدة التناقضات الداخلية، حين تلجأ الرؤوس من أمراء الحروب والطوائف والمذاهب وما إليها، إلى تأجيج تلك التناقضات الداخلية، وصب زيت الفتنة على نارها، فتتوارى الهوية الجامعة المشتركة إلى الخلف، حتى نخالها ذهبت دون عودة، وتتصدر المشهد تعابير الهويات الفرعية المتصارعة فيما بينها.
خبر عالمنا العربي الحالين، فقد رأينا كيف سادت في حقبة تاريخية معينة مفاهيم الوحدة العربية، والقومية المشتركة، التي صهرت الجميع في بوتقة وطنية، أو قومية، مشتركة، في مقارعة المستعمر الأجنبي، المحتل والغاصب للأرض، وحشدت قوى المجتمعات العربية في التصدي له، وها نحن اليوم شهود على انكفاء الهوية المشتركة الجامعة، لصالح الاستقطابات العرقية والمذهبية والطائفية والجهوية، مستعيدة من بطون كتب التاريخ أكثر الصفحات سواداً، لتوظيفها في صرعات الراهن.
يحملنا هذا على القول: إن الهوية بمقدار ما هي معطى موضوعي، تشكلّ عبر التاريخ، قابلة لإعادة تشكيلها، وبنائها وفقاً لحسابات سياسية مستجدة. وفي الأصل، فإن الهوية ظاهرة متحولة وغير جامدة على قالب واحد، لكن، ويا للأسف، ما أكثر ما يكون هذا التحول في طبيعة ووظيفة الهوية سلبيًا.