د. بهي الدين مرسي يكتب | العدالة معصوبة العينين

0 1,078

عندما تراضت الأمم قبل عدة قرون على ترميز العدالة بصورة فتاة معصوبة العينين للتدليل على أن العمى البصري هو ضمانة للعدل، كان هذا من قبيل تحييد الرؤى الذاتية للقاضي، وتم تجسيد هذه الفكرة عبر منحوتة سيدة معصوبة العينين وتمسك بيدها ميزانًا يرمز إلى وزن الجرم وتقديره بدقة وباليد الأخرى سيفًا يرمز إلى جاهزية العقاب، ويعود تاريخ التمثال إلى الحقبة الرومانية القديمة باعتبار هذه السيدة إلهة القانون والعدالة، ويمثل التمثال الإلهة الرومانية، وجاء هذا الرسم لتمثال سيدة العدالة مُشتقا من تجسيم العدالة في الفن الروماني القديم باسم “يوستيا” وهو ما يمثل الآلهة اليونانية تيميس ودايك، والطريف أن التمثال القائم أمام المحكمة الكبرى في دكا عاصمة بنجلاديش لم يرحب ببقائه كونه مجسمًا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، فتم رفعه بعد تظاهرات من السكان المحليين المتشددين.

بالطبع، يسعى هذا الترميز التاريخي إلى ترسيخ معنى قوامه أن القضاء “الأعمى” يزن أحكامه بالميزان ويترفع عن النظر للأشخاص أو التفاصيل وهو معنى كان القصد منه نزاهة القضاء، ولكن من قال بأن عمي البصر أو عمى البصيرة يصب في خانة تحقيق العدل؟ دقق المعنى جيدًا وستجد أن غياب الرؤية يحرم جهود التحكيم من شمولية النظرة، والشمولية هنا مكون أساسي في القياس الحقيقي الذي يمهد للقاضي فرصة الاستدلال السليم في المناطق الذهنية التي يعتمد فيها القاضي على الحدس.

لندرك مغزى اتساق السياق لأي حدث مع حيثياته، دعونا نأخذ مثالًا لطبيب أمراض النساء وهو يحملق في السيدة الممددة أمامه ليشخص المرض، فهو هنا لا يطالع عورة، ولا يتلصص على حرمة، ولا يرتكب فعلًا فاضحًا، ولكن لو تخيلنا أنه على بعد أمتار من عيادته، قابل نفس المريضة في المصعد وحملق فيها، فهنا تبدأ إدانته بكل ما نفيناه عنه سلفًا.

إذن قراءة السياق تعتبر مكونًا أساسيًا في فهم الدافعية لارتكاب الجريمة، ويُقرأ السياق بالعين المبصرة، وباكتمال البصيرة، وبالضمير الواعي، وبالعقل المنفتح، فلا مبرر إذن لضماد العينين أو تنحية البصيرة أو تعتيم الوعي، ولا إزاحة الضمير، ولا تغشية العقل.

كل ثوابت الحكمة في العالم تتغير ويُعاد النظر في صياغتها من جديد، فقد تسببت العولمة في تغيير مفاهيم الحرية، وإعادة تصنيف الثورات وفق الدوافع وإعادة ترسيم الحقوق بين الأفراد والحكومات ولم تعد هناك قواعد جامدة تظل راسخة كما المقدس لأن العالم يتغير.

إذن، فلنرفع ضمادة الأعين عن رمز العدالة، فهذا يتنافى مع نصح رب العزة بأن من له قلب غاش فسوف يؤتي العداوة.

إذن ما المانع من الإبقاء على العينين تبصران للحكم على المشهد وهو مقروء من كل جوانبه؟ الأحرى بالمدخن الذي ينوى الإقلاع عن التدخين أن يترك علبة السجائر على مرمى البصر ويجعل العزيمة هي حائط الصد ضد إتيان العادة مجددًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.