د.محمد علاء يكتب | من أجل التأسيس لحياة نيابية في مصر

0 735

أزعم أن مفهوم العمل النيابي والحزبي في البرلمان المصري بمجلسيه، النواب والشيوخ، لم يختمر بشكل كامل لدي عدد من أعضائه، وهذا لعدة أسباب أوجزها في النقاط الآتية.
أولاً: عدم وضوح المنطلقات الفكرية، أو الانحيازات، التي يتبناها النواب، وهو ما يعد نتاجاً لضعف دور الأحزاب السياسية وعدم وجود فهم واضح لوظيفة الحزب السياسي، فالمفترض أن تنشأ الأحزاب السياسية للتعبير عن مصالح قطاعات معينة وأفكار معينة، على سبيل المثال، يتبني الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة مبادئ الرأسمالية وحرية السوق، ويسعي لتقليص دور الدولة وتخفيض الضرائب على القطاع الخاص والالتزام بالقيم الدينية، بينما يتبني الحزب الديمقراطي مبادئ اليسار الأمريكي فيما يتعلق بتدخل الدولة في الاقتصاد من خلال الضرائب التصاعدية وضمان تكافؤ الفرص والمساواة وقبول الاختلاف، وبدون هذه التمايزات (سمها قوالب إن شئت) فلا معني للحياة الحزبية والنيابية والانتخابات.
ولا تعبر الأحزاب المصرية بوضوح عن انحيازاتها، حيث نري في خطاب عدد منها، بما فيها الأحزاب الصاعدة ذات التواجد البرلماني، محاولة لإخفاء هذه الانحيازات، فلا نستطيع التمييز بوضوح بين حزب يساري وآخر يميني وآخر تقدمي، إلخ. وربما يرجع هذا الأمر لرفض فكرة “التصنيفات السياسية” أو”القوالب الجامدة” لدي قطاع واسع من المصريين.
ومن أبرز علامات غياب انحيازات واضحة لدي الأحزاب القائمة استمرار حديث عدد منها باسم الدولة، ومن ذلك استخدام تعبيرات من قبيل “الدولة قررت الاستثمار في …”، “تقوم الدولة بالتوسع في …”، والواقع أن الحديث باسم الدولة يلغي فكرة الخلاف السياسي والرقابة التشريعية من أساسها. فالدولة في أبسط تعريفات العلوم السياسية هي شعب وإقليم وحكومة، وقرارات التشريع والانفاق هي من اختصاص الحكومة، وليس الدولة ككل، والنائب البرلماني من حقه/حقها مساءلة الوزير عن قراراته، ولكن لا يستطيع بطبيعة الحال مساءلة الدولة، فالمسئول يُحاسب على قراراته وما تعكسه من انحيازات طبقية أو فئوية أو فكرية (مثلاً الضرائب التصاعدية تعكس انحيازاً للطبقات الوسطي والدنيا)، ولا ينزع الاختلاف معه أو معها الاعتراف بولائه وانتمائه للوطن والدولة.
ثانياً: يرتبط بالنقطة السابقة غياب نقاش واعٍ حول ماهية وأولويات القيم التي يجب أن توجه صنع وتنفيذ السياسات العامة، مثلاً هل نعطي الأولوية لحرية الاختيار وقوي السوق، أم لمبادئ العدالة وإعادة التوزيع؟ وكيف تتعارض أو تتناغم هذه المبادئ؟ وما هي حدود تدخل الحكومة في الأسواق؟ وما هي مسئولية الدولة تجاه قضايا مثل الفقر وإعادة توزيع الدخل ودعم الصناعات الوطنية، إلخ؟ هذه القضايا خلافية، وتحديد القيم التي توجه التدخلات الحكومية يمثل أساساً للمنافسة السياسية والانتخابية حتى يكون أمام الناخب بدائل حقيقة للاختيار.
وقد طرحت عديد من الدراسات أن غياب المعرفة بالمنطلقات الفكرية والسياسية للأحزاب والسياسيين يعد أحد أهم أسباب ضعف المشاركة السياسية والعزوف عن التصويت في الانتخابات، حتى أن بعض الدراسات أشارت إلى أن ضعف معدلات التصويت في الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بغيرها من الديمقراطيات الغربية يرجع إلي التشابه بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول عديد من السياسات، بينما تظهر الاختلافات في تفاصيل هذه السياسات، حتي أطلق البعض علي الأحزاب الأمريكية مصطلح Tweedledee and Tweedledum parties، في إشارة إلي التوأم الذي يظهر في حكايات “أليس في بلاد العجائب”، ولا تستطيع أليس أو المشاهد التمييز بينهما.
ولا شك أن الوضع في مصر يتجاوز الأخوة Tweedledee و Tweedledum، وفي فترة الانتخابات البرلمانية الأخيرة شاهدت صوراً عدة تملأ لافتات ضخمة في شوارع القاهرة شرقاً وغرباً لمرشحين لا أعرف شيئاً عن توجهاتهم السياسية، مثلاً هل يدعمون انسحاب الدولة من الاستثمار في قطاعات اقتصادية معينة أم يؤيدونه؟ حتى أن الشعارات الانتخابية ذاتها بدت خالية من أي تعبير عن قيم سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ومنها ما يشير إلى الاستمرار في العطاء، دون إشارة إلى نوع العطاء المطلوب من الناخب تأييد استمراره، أو أن الصوت أمانة، ولا يعرف الناخب كيف يحافظ على الأمانة بينما أغلب الدعاية قائم على صورة المرشح أو المرشحة، وليس من قبيل أمانة الصوة الادلاء به على أساس صورة المرشح أو المرشحة.
ويجب أن يلتفت النواب والمرشحون، ويوضحوا لناخبيهم ودوائرهم، أن صياغة السياسات العامة ينبع من أسس فكرية مختلفة، وأن المنافسة الانتخابية لا تقوم على عدد المدارس أو المستشفيات التي يتم بناؤها، وإنما تنبع المنافسة من الاختلاف حول طرق التمويل والإدارة والرقابة وضمان المنافسة، إلخ. ففي قطاع الصحة على سبيل المثال، يوجد اتفاق على أهمية وجود شبكة تأمين صحي شامل، ولكن سؤال السياسات العامة هو: هل تقوم الحكومة ببناء وإدارة المستشفيات، أم تقوم بالتعاقد مع شركات تأمين لتغطية الخدمات العلاجية التي يقدمها القطاع الخاص؟ بمعني آخر، هل نبني سياستنا الصحية على التدخل الحكومي المباشر أم علي آليات السوق وحرية الاختيار؟

كذلك في مجال التعليم، يشهد العالم عديداً من النظم التعليمية التي تعكس منطلقات فكرية مختلفة، فبعض الدول تلتزم ببناء وإدارة المدارس العامة، بينما تسمح بمساحة للقطاعين الخاص والأهلي للقيام بدور في مجال التعليم، كذلك اتجهت دول ووحدات محلية في عدة دول إلي تبني فكرة التمويل العام للتعليم الخاص (وهو ما يتفق مع مبادئ حرية الاختيار وآليات السوق)، ومن أمثلة هذا التوجه ما يعرف بالمدارس التعاقدية Charter Schools، التي تعتمد علي انشاء المدارس بمبادرات وإدارة خاصة، بينما تتولي الحكومة تمويل هذه المدارس، وقد تبنت دولة قطر هذا التوجه في مبادرة “التعليم لمرحلة جديدة” عام 2004، ولكنها تراجعت عنه بعد ما يزيد علي عقد من الزمان. وتوجد مبادرات أخري لتوفير تمويل عام للتعليم الخاص مثل الكوبونات المدرسية School Vouchers، حيث توفر الحكومة كوبونات لأولياء الأمور وفق معايير مختلفة، منها القدرة المادية، لإلحاق أبنائهم وبناتهم بمدارس خاصة، ولأولياء الأمور حرية إضافة مبالغ مالية على نفقتهم الخاصة لإلحاق أبنائهم وبناتهم بمدارس أعلي في التكلفة.
ثالثاً: وبالنظر إلى ضبابية التوجهات السياسية وعدم طرح القيم الموجهة للعمل العام للنقاش، يبرز الاهتمام بخدمة أهالي الدوائر الانتخابية لضمان الحصول على أصواتهم في الانتخابات التالية، ويتراجع دور الرقابة والتشريع، حتى وصف بعض المراقبين الاستجوابات وطلبات الإحاطة في البرلمان المصري بأنها نوع من المناكفة مع الوزراء، ولا يمكن اعتبارها من قبيل الممارسة الحقيقية لوظائف الرقابة والتشريع.
لذا يجب أن يعي النواب أن دورهم التشريعي لا يقل أهمية عن خدمة دوائرهم الانتخابية، وأن النائب بحكم التعريف مُشرّع، أي أنه مسئول عن صياغة القوانين، وبالتالي عليه صياغة رؤية متكاملة ومنطلقات فكرية متجانسة توجه خياراته وانحيازاته السياسية بحيث تكون واضحة للناخب الذي يسعي للحصول على صوته.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.