كانت ولا تزال الكتابة عن عمارة القاهرة العتيقة موضع اهتمام الكثير من المؤرخين والآثاريين والمعماريين، وذلك في إطار التعرف على هوية العمارة المحلية بوجه عام، ولما كانت العمارة التراثية هي العنصر الرئيس الذي يعبر عن احتياجات المجتمع ويمثل صورة لأسلوب الحياة للقرون الماضية، فهي بذلك تمثل همزة الوصل بين العصور الوسطى والحاضر، حيث كانت دائمًا العمارة المدنية وبيوت الطبقة المتوسطة هي التي تعبر بصدق عن هذا الاتصال والاستمرارية في الحضارة، ونحن حين نقوم بتدبر هذه الشريحة من العمارة، نجد أنها خير دليل يعبر عن العادات والميراث الحضاري المتصل حتى فترة العمارة المملوكية ذائعة الصيت، وذلك يؤكد أهمية الحفاظ على عمائرنا التراثية وما هو قائم منها حاليًا بالقاهرة التاريخية وبغيرها من المدن القديمة.
لقد كانت عمارة القاهرة الإسلامية هي أحد مظاهر الحضارة التي ميزت التاريخ الإسلامي ولا تزال هذه العمارة إلى الآن شاهدة على عظمة هذه الحضارة وإنسانيتها، ولم تقتصر تلك العمارة على المساجد فقط، بل امتدت لتشمل المدارس والأسبلة والبيمارستانات والمنازل والقصور والقلاع والحصون والأسوار والأبواب وغيرها من أشكال هذا الفن البيع مما يدل على اهتمام الحضارة الإسلامية بكافة مناحي النشاط الاقتصادي والاجتماعي وأيضا الحربي، وجمعت العمارة الإسلامية بين مختلف أشكال الفنون.
وفي مصر نشأت العمارة الإسلامية كحرفة بسيطة من حرف البناء في أبسط أشكاله، ثم تطورت حتى نشأت عنها مجموعة من الفنون المعمارية المختلفة، وتعد العمارة من أهم مظاهر الحضارة، فالعمارة هي المرآة التي تعكس آمال الشعوب وأمانيها وقدراتها العلمية وذوقها الرفيع، بل وفلسفتها أيضا، وفي الواقع لا يمكن الفصل بين العمارة والفن التشكيلي، فالمؤرخون يعتبرون العمارة عملا إنشائيًا يتم تكوينه لكي يبرز صور الفنون المختلفة، واعتبر قدماء اليونان العمارة أنها أم الفنون، حيث كانت العمارة تهتم بالنحت والرسم حسب البيئة المحيطة ثم تنوعت بعد ذلك الفنون والأشكال والخامات فاستخدمت الزخارف المتنوعة والنحت بأنواعه كالنحت على الخشب والجبس، واستغل الفنان المسلم قدراته وابتكاراته استغلالًا صحيحًا فظهرت القباب والقبوات وغيرها.
ومن الثابت لدينا أن الفن الإسلامي المصري قام على أسس من فنون البلاد التي فتحها المسلمون أو خضعت لهم ذلك أن طبيعة شبه الجزيرة العربية الصحراوي وانتقال البدو من مكان إلى آخر سعيًا وراء المرعى لم يكن ليساعد على قيام فنون تشكيلية، على أن الفتح العربي الإسلامي لم يقبل كل ما وجده من تلك الفنون بل استبعد منها ما لا يوافق مزاجه الخاص، ثم جمع ما اختاره منها وصهره في بوتقة بعد أن طبعه بطابعه الخاص وهو الكتابة العربية، ولذلك نستطيع أن نقول بأن الفن الإسلامي أخذ قوامه الروحي من وسط شبه الجزيرة العربية، أما قوامه المادي فقد تم صوغه في أماكن أخرى كان للفن فيها قوة وحياة.
وتدل عمارة المساجد التاريخية المصرية البديعة على الاهتمام البالغ بالعمارة والفنون، فالمساجد لها وقعها في المجتمع المصري، فهي صومعة الناسك ومدرسة الدارس ودرك للعزة، يعمرها الزاهدون والمتصوفون والذاكرون والعارفون، وتعمها حلقات الدرس من فقه وحديث ومنطق وكلام، ومجالس الأدب من نحو وبلاغة ونقد، وندوات الاجتماع التي تتعرض لسائر العلوم، ويعمرها العلماء والفقهاء والأئمة والأدباء ويقوى بها الضعيف والغريب ويأنس إليها ابن السبيل والمسكين، ويرفع صوته فيها الداعي إلى الخير.
وفي النهاية، لا شك أنه يتعذر على أي باحث أو دارس بعد مضي أكثر من ألف سنة على تأسيس مدينة القاهرة بتراثها الفريد أن يقف على أسماء جميع أفراد طوائف الحرف المختلفة الذي ساهموا في بناء هذا الإرث المهيب، من حجارين وبنائين وملاطين ومزخرفين ورخامين، وغيرهم ممن شاركوا من هؤلاء الحمالين والسقائين وآلاف المعماريين والمخططين الذين أجهدوا قرائحهم ليجعلوا من مدينة القاهرة عاصمة لأفريقيا ومركزًا رئيسًا للحضارة الإسلامية ومنارًا للعلم والمعرفة.