صلاح السروى يكتب | اتجاهات البحث فى قضية الهوية المصرية (2-2)

0 293

لا شك، عندى، فى أن سكان اقليم السهل يتمتعون بقابلية كبيرة للاندماج والتداخل والتفاعل، قياسا بسكان البادية أو الجبل. نظرا لقرب التواجد وسهولة التنقل بين أماكن هذا التواجد. ومن ثم، يتم التداخل والتفاعل، على نحو قوى وفعال، كما أسلفت من قبل.
بيد أن هذه النظرية، فى جوانب أخرى قد تنطوى على عدة مزالق مفاهيمية: أهمها هذا التفسير التبسيطى الميكانيكى لطبيعة وتطور المجتمعات البشرية. بينما الأمر، فيما أذهب، اعقد من ذلك بكثير. لأنه مرتبط، أيضا، بطبيعة ودرجة احتدام التناقضات، قيما يتعلق بمصالح القوى الممثلة للمكونات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية. وكذلك، صراعات الداخل، ككل، مع التحديات وعوامل التاثير الخارجية .. وما الى ذلك من عناصر متداخلة ومتفاعلة، تمثل فى المحصلة “جدل الخاص والعام”، فى الآن نفسه.
وفى الواقع، فان هذه النظرية، تعد احدى تجليات “النظرية الوضعية” فى تفسير التاريخ، والتى نجدها متمثلة عند واحد من أبرز باحثيها هو كارل أوجوست فدفوجل، صاحب “نظرية الطغيان” أو الاستبداد despotism theory ، التى طرحها فى كتابه: “الاستبداد الشرقى – دراسة مقارنة فى السلطة الشمولية”، والصادر عام 1957 . (فى الهامش: لقد سبق طرح هذا المصطلح، أى الاستبداد الشرقى، عند كارل ماركس، فى باب ما أسماه ب “النمط الآسيوى للانتاج”. ولكن فيتفوجل حوله فى كتابه، ذاك، الى نظرية تاريخية ذات انتماء وضعى كامل). وتعد نظرية فيدفوجل المصدر الرئيسى لتجدد طرح مصطلح “الاستبداد الشرقى” oriental despotism ، وشيوعه. بما أدى الى الصاق صفة “الاستبداد” بالشرق، على نحو اطلاقى. دون النظر الى الأوضاع التاريخية الاجتماعية التى أدت الى سيادة هذه الصفة وامكانيات تبدلها بتبدل الظروف التى خلقتها.
ويتبدى انتماء هذه النظرية الى الفلسفة “الوضعية”، فى كونها تقوم على أساس اعتبار أن “البيئة”، بما فيها الطبيعة الجيولوجية والموقع الجغرافي والمناخ والنهر .. الخ، هى التى تحدد طبيعة السكان وأنماط الحكم .. الخ. وعلى هذا الأساس تفسر تلك النظرية تغاير طبائع الشعوب والحضارات والدول التى قامت على الزراعة النهرية، عن مثيلاتها من أصحاب الزراعة “المطرية”. فالبلدان التى يقوم اقتصادها على الزراعة النهرية، تتيح ظروفها البيئية، من حيث الطبيعة (السهلية) للوادى الذى يجرى فيه النهر، امكانية قيام حكم مركزي “استبدادي”، بما يكفل اقامة الدولة وبسط سيطرتها على كامل اقليم النهر. بينما تتميز الشعوب والحضارات والدول التى قامت على الزراعة المطرية، والتى لا تحتاج الى (اقليم) كامل، اضافة الى وعورة الأرض (غير السهلية) يمكن أن تقوم دولتها فى مدينة واحدة (نموذج الدولة المدينة) أو عدة مدن صغيرة متجاورة. ولذا فانها تتمتع بنوع من الحكم المستقل و”الديمقراطى” مثل اثينا وكورنثة واسبرطة .. الخ. نظرا لقلة عدد السكان، من ناحية. وكذلك، صعوبة التضاريس التى تقلل من امكانية الاخضاع والهيمنة، من ناحية أخرى (انظر: كارل فيدفوجل، الاستبداد الشرقى – دراسة مقارنة للسلطة الشمولية، ترجمة محمد الرشودى)
ان خطورة هذه النظرية انما تكمن فى أنها تحكم (بضم التاء وتشديد وكسرالكاف) الثابت (المكان) فى المتغير (المجتمع), ومن ثم فهى تجعل من السمات الشخصية، لشعب بعينه، سمات عامة (أى مهيمنة على نحو شامل) وأبدية، لا تتغير عبر الزمن. كما أنها تجعل أنماط الحكم واساليب الممارسة السياسية أنماطا وأساليب أبدية، بحيث تبدو وكأنها نوع من القدر “التاريخي”، الذى تفرضه الطبيعة “الجغرافيا”، ولا فكاك منه مهما حاولت الشعوب.
وهذا الاتجاه هو ما يصفه محمود أمين العالم، فى معرض تعليقه النقدى على كتاب “شخصية مصر” لجمال حمدان، بأنه يجنح .. “الى الجانب الطبيعى الخالص، مما يرجح رؤية مادية ميكانيكية الى بعض الظواهر”. (محمود أمين العالم، الوعى والوعى الزائف فى الفكر العربى المعاصر، ضمن الأعمال الكاملة (الأعمال الفكرية)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015، ص 739.)
وغير خاف أن “المادية الميكانيكية” تمثل المنهج الذى توصف به توجهات “المدرسة الوضعية”، فى المجال الفلسفى. وذلك على النقيض من “المادية الجدلية”، التى تتبناها الفلسفة الماركسية.
والحقيقة أن السمات الشخصية للشعوب اذا كانت تقوم، جزئيا، على اساس ومعطيات الواقع البيئى الذى يمثل “المكان” والبيئة الطبيعية مكونه الرئيسى، (كما أسلفت) فان سماتها الشخصية وملامحها الفكرية والحضارية تتحدد، أيضا، على ضوء مستوى التطور التقنى والطبقى – الاجتماعى، وليس مجرد طبيعة المناخ أو التضاريس. حيث أن هذه العناصر البيئية لا تعمل منفردة، بل تعمل بالتجادل مع عوامل انسانية أخرى، مثل تطور اساليب الانتاج وعلاقاته، وكذلك على ضوء الظروف التى تخلقها علاقاتها بالخارج من حروب وانتصارات وهزائم .. الخ. ومثال ذلك أن “المرحلة العبودية”، من تطور عملية الانتاج، بكل سماتها، سواء، المتمثلة فى التكوين الهرمى الحاد للمجتمعات، أو سيطرة الأدوات التكنولوجية البدائية، أو الوعى الأسطورى الذى يميز خصائصها الدينية والثقافية (بما فيها من مفاهيم السلطة والتنظيم الادارى والحكم .. الخ) المتناسبة معها. هى مرحلة لا تكاد تستثنى شعبا من الشعوب، (باشكال وصيغ متفاوتة قد يكون من بينها ماطرحه ماركس من قبيل “نمط الانتاج الآسيوى”).
وكذلك الأمر فى المراحل اللاحقة من اقطاع وراسمالية، وما يقابلهما من تنويعات طبقية، تخص كل مجتمع وثقافة على حدة. بكل مستتبعات تلك المراحل من أنماط حكم ومفاهيم وتصورات عن الدولة والسلطة والشعب والأخلاق والعقائد وأنماط السلوك .. الخ. وان اختلفت بعض البلدان فى التفاصيل من حيث درجة التطور الاجتماعى والحضارى. كما يمكن أن تختلف، كذلك، من حيث قدرتها على الاستفادة، أو التأذى، من معطيات الموقع. وذلك بصرف النظر عن طبيعة المكان الجغرافى الذى يتنوع بتنوع التواجدات البشرية.
من هنا نستطيع القول بأن “الجغرافيا” لايمكنها أن تحكم “التاريخ”، وان أثرت فيه على نحو معين، بكل تأكيد. كما أن “المكان” لايمكنه أن يوقف عجلة “الزمان”، وان أثر فى سرعته وطبيعة حركته، بلا مراء.
وعلى ذلك، فان الشخصية المصرية قد تأثرت، بالطبع، بموقعها الجغرافى ونشاطها الزراعى المعتمد على النهر، فى بداية التكوين الحضارى التاريخى لها. بيد أن تطور هذه الشخصية لم يقف عند هذين العاملين، خاصة أن مصر، فى المراحل الحضارية اللاحقة، لم تعد مجرد دولة زراعية نهرية. بل دخلت، أنماط انتاج ونشاط اقتصادى، أخرى، الى حيز الحياة الاجتماعية المصرية، مثل الصناعة والسياحة والتعدين .. الخ. خاصة فى العصور الحديثة. فضلا عن وجود تماس حضارى وثقافى أقوى وأكثر عمقا، مع الآخر الأجنبى، بصفة عامة.
وهو ما يعنى دخول عوامل ثقافية وحضارية جديدة على مصر، لم يكن لها بها سابق عهد. ولعل هذا ما يؤكد، كما يفسر، لنا عدم اطلاقية ما يعرف بثبات السمات المميزة لهذه الشخصية. بما يعنى تغيرها مع تغير الزمن، وتعدد انماطها الثقافية والحضارية عبر الدهور. شأنها فى ذلك شأن كل الأمم والشعوب، وان كان ذلك يتم، بالطبع، بوتائر ومناحى مختلفة، باختلاف الظروف والملابسات التاريخية.
ولولا ذلك لأمكننا القول بأن هذه الهوية مصمتة لا تمايزات ولا اختلافات بين مكوناتها العامة. بينما أثبتنا، فى الفصل السابق، أن الهويات الثقافية (والمقصود أية هوية، أيا كانت) انما هى كيانات متحركة ومتحولة عبر الأزمان، كما أنها متعددة داخل الزمان والمكان المحددين، وليست كيانا مصمتا. فلا يمكن تصور وجود شعب بكامله يتكون من قوالب متماثلة لا تمايز فيها، أو يتميز بسمات واحدة، مهما تعددت أقاليمه وطبقاته وفئاته الاجتماعية. وان كان من الممكن أن تتسيد بعض السمات على بعضها الآخر فى مرحلة زمنية محددة. كما لايمكن تصور أن هذه السمات والخصائص خالدة ومتواصلة، بحالتها الأولى، عبر الأزمان والأجيال. بما تحمله تلك الأزمان من تعاقب سياسى وحضارى ودينى وثقافى عام. على النحو الذى يمكن تصوره من ما خلفته الحروب والتجارة والهجرات والتطورات التكنولوجية والعناصر الناتجة عن الاتصال بالآخر .. الخ، بالقدر ذاته.
كما أن هذا التصور التعميمى، فى حال تبنيه، فانه يفضى، على نحو مباشر، الى التعصب القومى، القائم على دمغ أمة كاملة بسمات واحدة لافروق بينها. وهو صنيع مرادف “للشوفينية” و”العنصرية”، المفضية الى “كراهية” نوع، والحكم بأفضلية نوع آخر. فضلا عن كون هذا المنحى من التفكير أوالاعتقاد يقوم على رؤية تعميمية “مثالية”، لا ترتكز على أساس علمى، من حيث الوعى بالقوانين الموضوعية التى تحكم تطور المجتمعات والشعوب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.