ناجي شاهين يكتب| روسيا في ورطة

0 441

أظن أن القيادة الروسية تبذل الوسع والغاية للخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه. حاليًا، هناك حرب “خنادق” ترواح مكانها وتستنزف الإمكانيات الروسية المتواضعة. وحرب الخنادق هذه أوضحت للقاصي والداني أن روسيا عملاق نفطي/غازي/نووي بدون أنياب عسكرية فعلية أو إمكانيات اقتصادية عصرية.
لكن إذا كنا نحن “المتفرجين” من أبناء البلاد الأخرى نجهل إمكانيات روسيا الحقيقية فكيف تأتى للقيادة الروسية أن تجهل ذلك؟ بل يجب أن نسأل: كيف سولت أنفسنا لنا نحن “أصدقاء” روسيا أن نتوهم أن لديها القوة التي كانت تزعمها أو تتخيلها؟ كيف نسينا جميعاً تعثر الاتحاد السوفييتي بكل الذي كان يمثله في مواجهة “الجهاد” الإسلامي المدعوم أمريكياً وسعودياً وصولاً إلى هزيمة القوات السوفييتية وربما الدفع باتجاه تفكك الاتحاد ذاته.
وكيف نسينا عدم الفاعلية في دعم سورية وصولاً إلى قصف إسرائيلي دائم، وانتهاك تركي لا يتوقف، وتواجد أمريكي ثابت. ما الذي فعلته روسيا في سورية؟ محاربة العصابات؟ صحيح، ولكن العبء الرئيس هنا وقع على كاهل الجيش السوري والمقاومة اللبنانية. في ضوء ما يجري: أدى الروس دوراً مهماً في الجو، ولكن الإنجازات على الأرض صنعها الجيش السوري والمقاومة اللبنانية حصرياً.
لا نهدف إلى لوم روسيا. إنما نهدف إلى القول إن “طموحاتها” ورغبات قيادتها تتجاوز قدراتها الفعلية بكثير. تحاول روسيا أن ترتدي عباءة الاتحاد السوفييتي -على الرغم من أنه كان منفوخاً أيضاً- دون أن تمتلك مخزون الدهون والكرش والعضلات الذي يملأ هذه العباءة. وهكذا تبدو السياسات الروسية فضاضة وتتجاوز حجم الدولة الفعلي كثيراً.
هذا الذي نقول يزعج الناس الذين يتوقون إلى رؤية نهاية سريعة للهيمنة الأمريكية، والذين ظنوا أن روسيا قد دخلت أوكرانيا لتقلب الطاولة مرة وإلى الأبد على رأس الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها. لكن روسيا على ما يبدو قفزت في الهواء دون أن تتحسس موضع قدميها. لقد تجاهلت القيادة الروسية أن “الثنك تانك” الأمريكي قد قام فعلاً باستبعادها من دائرة المنافسة منذ أزيد من عقدين، وأن الصين هي “العدو، والخطر، والتهديد” بالنسبة للباحث وعالم السياسة وصانعها ورجل الدولة الأمريكي على حد سواء.
يعلم الأمريكي جيداً أن روسيا دولة صغيرة اقتصادياً وعلمياً قياساً لحجمها وعدد سكانها. وقد كان عنوان ثقل روسيا الاستراتيجي هو قوتها العسكرية بحسب التقديرات التي كانت تضعها دائماً بعد الولايات المتحدة مباشرة. ولكن إذا كانت تلك التقديرات خاطئة كما يبدو الآن، فإن ذلك يعني ان روسيا تحظى بتقدير مبالغ به على نحو أشد من التقدير المبالغ به الذي حظي به الاتحاد السوفييتي بعد الحرب الثانية وحتى تفككه. لقد أراد مطبخ السياسة الأمريكي توريط روسيا في أوكرانيا لتصفية ما لديها من قوة وإجبار ألمانيا وغيرها على الارتماء في الحضن الأمريكي دون قيد أو شرط. ولا بد أن عصافير بعيدة قد اقتربت من القفص الأمريكي بالفعل، ومنها على سبيل المثال السويد وفنلندا.
لقد خسرت روسيا الحرب دون شك، وقد أدى الاصطفاف الكوني الشامل وراء الولايات المتحدة في جهدها المزعوم لحماية أوكرانيا دوره في ذلك. لكن الأمر الأهم هو فشل الماكينة العسكرية الروسية في أداء مهامها بسرعة وكفاءة، وهو ما يكاد ينتهي بها إلى الإقلاع عن محاولة تحقيق أية إنجازات على الأرض والاكتفاء من الغنيمة بالسلامة، على الرغم من أن ذلك عصي المنال حالياً بسبب انتقال القيادة الأوكرانية من حالة الهلع والانهيار المعنوي التام بداية الحرب، إلى حالة المناكفة والمطالبة بانسحاب الروس دون قيد أو شرط، وصولاً إلى المطالبة بدفع الروس تعويضات عن “جرائمهم”.
انطلقت العملية الروسية قبل ستة أشهر وسط قناعة عامة في كل مكان أن أوكرانيا ستنهار في وقت سريع، ساعات أو أيام أو أسابيع قليلة على أبعد تقدير. طلبت روسيا من أوكرانيا نزع السلاح الشامل للجيش الأوكراني وتسليم السلطة عبر انتخابات “نزيهة”. أما أوكرانيا فجسد موقفها المذعور زيلنسكي الذي ظهر في أكثر من فيديو مسجل يعلن أن حياته تقترب من نهايتها وأن المشاهدين قد لا يبصرونه على قيد الحياة مرة أخرى. كذلك توقعت أوروبا وأمريكا أن الانهيار وشيك، وشرعا في التحضير والإعداد لحرب عصابات طويلة الأمد على نسق ما جرى ضد الاتحاد السوفييتي في افغانستان. في تلك الأيام الأولى للحرب كانت أوروبا تتحدث بحذر شديد جداً عن دعم أوكرانيا أو معاقبة روسيا. كان الخوف الغريزي من الدب الروسي هو سيد الموقف في تحديد ردود أفعالها الهامسة.
اليوم بعد ستة أشهر تغير كل شيء. من الواضح أن روسيا لم تربح الحرب. ويبدو الآن جلياً أنها لن تربحها أبداً. وقد دفعها ذلك على ما يبدو إلى إخراج ورقة الغاز اليتيمة التي قد تدشن عصراً جديداً يتم فيه الاستغناء عن الغاز الروسي. غني عن البيان أن دولاً كثيرة تتسابق إلى تزويد أوروبا بالغاز من قبيل قطر وإسرائيل والجزائر، بل إن “عدو الغرب” اللدود إيران يعرض الشروع في تصدير الغاز فور رفع العقوبات. الدول تستغل الظروف من أجل تحقيق أكبر مقدار من المصلحة ما لم يكن هناك قوة مهيمنة تمنع ذلك مثلما تفعل الولايات المتحدة عندما تحاصر دولة ما وتجبر الدول الأخرى على الالتزام.
نتردد كثيراً إذ نقول إن شيئاً ما في دخول روسيا أوكرانيا يذكر بدخول العراق إلى الكويت على الرغم من فاعلية الهجوم العراقي السريع الذي تحقق في ليلة واحدة. وجه التشابه هو نفخ القوة الروسية والعراقية وخلق الوهم لدى القيادة والجمهور والمجتمع الإنساني بأننا أمام وحش بمخالب طويلة وحادة سيلتهم العالم. ويبدو أن صانع القرار الروسي قد ابتلع ذلك مع ميل غير مدروس للتهوين من شأن القوة الأوكرانية والمبالغة في تقدير القوة الروسية. دائماً تخبرنا مواقع تقييم القوة العسكرية أن روسيا هي القوة التي تلي الولايات المتحدة. ولكن الميدان كشف افتقار القوة الروسية إلى الفاعلية والتنظيم وإدارة الموارد العسكرية على نحو مجد يؤدي إلى تحقيق الإنجازات السريعة. أما سياسياً فكان على روسيا أن لا تدخل هذه الحرب إن لم تكن قادرة على خطف نصر سريع.
لا يمكن تجنب الانطباع أن روسيا تعيش ورطة سياسية وعسكرية واقتصادية يكشفها على الملأ التراجع الواضح في رغبة أوكرانيا في المفاوضات. ولا بد أن القيادة الروسية في وضع لا تحسد عليه من أجل التوصل إلى مخرج “مشرف” من هذا المستنقع الذي يتحول بالفعل إلى حرب استنزاف لا تقوى روسيا أبداً على تحملها. إن القيادة الروسية في حاجة ماسة إلى اجتراح معجزة تنقذ البلاد من حرب جرت عليها هبوطاً حاداً في الموقع والأدوار والمكاسب من النواحي العسكرية والاقتصادية والسياسية دون استنثاء، وربما يكون التهديد بالنووي أحد المخارج الصعبة والمحرجة الذي قد يضطر بوتين إلى اللجوء إليه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.