هيبت بافي حلبجة يكتب | نقض مفهوم الكون لدى هولباخ (١-٣)

0 330

على الرغم من عدم شهرته ، وهو البارون دي هولباخ ، بول هنري دي هولباخ ، إنني أحتسبه من بين أقوى تلك الشخصيات الفلسفية المميزة ، لما يتمتع برؤية حادة وبصيرة نافذة ، ولما له من إطروحات دقيقة وواضحة وأصيلة ، وأفكار نقدية في المجال الفكري الذي كان سائداٌ في عهده ، وتكفيه عظمة إنه قد ألف مؤلفه المعنون ، نهج الطبيعة أو نسق الطبيعة ، ومن هنا تحديداٌ أسميه بفيلسوف الطبيعة ، من أنصار الطبيعة كما هي ، أي المادة وقوانينها .
المقدمة الأولى : إن تأصيل منظومة هولباخ الفكرية يستند إلى قاعدة أصلية ثابتة ومستقرة وهي : إن لا إله لهذا الكون ، لا خالق له ، لا كائن غيبي يتحكم فيه ، و لا ثم من يحدد مصيره وأحداثه وحيثياته ميتافيزيقياٌ ، فما بين منظومتين متناقضتين بالكلي ، أي مابين الإله والعالم الغيبي واللامادي ، ومابين الكون والطبيعة والمادة ، إختار العالم الثاني بعد أن أدرك تمام الإدراك إن العالم الأول ، عالم اللامادي والغيبي والإلهي ، هو سخيف وتافه . أي :
من ناحية ، إن هذا الكون هو هذا الكون وينبغي أن نتقبله ، نتقبل قواعده وقوانينه وظواهره وأحداثه كما هي ، وطالما إننا هنا كبشر فليس لدينا خيار سوى أن نتقبل ماتمليه علينا الطبيعة المادية لهذا الكون ، لهذا الواقع ، فضمن هذه الطبيعة وهذا الكون المادي ، نحن محدودون بالشرط الخاص لهذا الوجود الممتلىء ، محدودون بفك أسراره حسب خواصه البنيوية ، وليس حسب ما نعتقده أو حسب مايمليه علينا تصورنا عن هذا الإله الغيبي .
ومن ناحية ، لقد أخطأ من إعتقد إن هولباخ ، دي هولباخ ، أنكر وجود هذا الإله السماوي لإنه كان مادياٌ بحتاٌ ، مادية صرفة ، طبيعياٌ محضاٌ ، وفي الأصل إن هولباخ تمسك بالمفهوم المادي للكون بعد أن تيقن أن لا وجود لمثل هذا الكائن ، ولا وجود لأي ماهو غيبي منفصل عن الكون . فليست ماديته هي التي أملت عليه إنكار هذا الكائن السماوي ، إنما تيقنه بإستحالة هذا الوجود الغيبي هو الذي فتح الباب الخفي لأساس منطومته الفكرية ، منظومته في فهم الكون ، في فهم الطبيعة .
ومن ناحية ، وهكذا ينتقد هولباخ الأفكار الفطرية لكانط وينكر وجودها ويؤكد إن هذه الأفكار قد إكتسبناها مغالطة نتيجة ثقافتنا الفاشلة ، فالطفل يولد بدون هذه الأفكار وإن الأبوين هما اللذان يلقناه يوماٌ بعد يوم .
ومن ناحية ، يؤكد هولباخ إن ماتسمى بالروح ليست في النهاية إلا حالة فيزيولوجية محضة في طبيعة الجسم البشري من حركة الدم والأعصاب ومحتوياتهما ، وكذلك يؤكد ذات الشيء حول موضوع العقل ، من خلال نفيه لكل ماهو غيبي ميتافيزيقي حولهما ، أي حول الروح والعقل .
ومن ناحية أخيرة ، يؤكد هولباخ إن الفعل الإنساني الصائب هو في التماهي التناظري مع هذا التصور عن الكون والطبيعة ، وليس مع كائن غيبي غير موجود ، أي وبتعبيراته الخاصة ، مهما توسلنا إلى هذا الكائن ، ومهما تضرعنا إليه ، ومهما إستنجدنا بالكهنة ، فإن هذا لن يغير من واقعنا ، لن يحسن من مآسينا ، لن يخفف عنا وطأة الكوارث .
المقدمة الثانية : إنسجاماٌ مع المقدمة الأولى يؤكد هولباخ إن هذا الإله الذي يفرض وجوده ، هو تعريفاٌ ، وحسب الديانات ، ليس إلا كائناٌ لامادياٌ ، إذ لاعلاقة له بالمادة المرئية المحسوس ، فكيف يمكن لهذا الكائن اللامادي أن يخلق وجوداٌ مغايراٌ كلياٌ لطبيعته ، وجوداٌ مادياٌ يضاد طبيعته . وكيف أفتكر أن يخلق هذه الطبيعة المادية تحديداٌ ، وكيف تسنى له ذلك ، أي لو وجد هذا الإله لربما خلق وجوداٌ له طبيعة تماثل طبيعته ، تماثل لاماديته وتناسب ماهيته اللامادية . وهكذا :
من ناحية ، أليس من المفروض أن يخلق هذا الإله مخلوقات على شاكلته ، أليس من المنطقي والمعقول أن نكون نحن ، كوننا من مخلوقاته على زعم الدينات ، من طبيعته وأن يكون الكون نفسه من طبيعته ومهما تكن هذه الطبيعة ، بينما نشاهد في الواقع إن البشر هم الذين خلقوا هذا الإله على شاكلتهم ، وجعلوا منه إنساناٌ إلهاٌ يتحكم في مصير هذا الكون ، وفي كل جزئية مهما كانت تافهة ، ونفوا عنه فقط هذه الطبيعة المادية كي يتفادوا مجموعة هائلة من الإشكاليات اللامنطقية .
ومن ناحية ، لإن البشر هم الذين خلقوا هذا الإله وعلى شاكلتهم ، فهو يتصرف بما يناسب هذا التفكير البشري ، بما يتماثل مع حيثيات هذا الواقع ، ويضرب أمثلة عديدة على ذلك ، نكتفي بأثنين ، مثال العبادة ومثال الشر، وهاهو يؤمرنا بالعبادة له ، فهل هو يحتاج إلى هذه العبادة أم إنه لايحتاج إليها، فإذا إحتاج إليها فهو ليس إلهاٌ ، وإذا لم يحتج إليها فقد تصرف بمزاجية مستهترة في خلقه لنا ، وبحسب تعبيراته يقول : على مايبدو إن هذا الإله ، إله الأديان ، قد مل وضجر من الوجود بمفرده فخلقنا ، ويستطرد : إن هذا الإله يتصرف كملك مستبد وحاكم مطلق . وفي موضوع الشر هاهو يرى الشر في كل مكان ، ورغم ذلك لايحاول أن يزيل عنا سطوته وآثاره المدمرة ، أوليس كان من المفروض أن نكون جميعاٌ سعداء ، بل في قمة السعادة طالما إننا من مخلوقاته ، فهل يستلذ بعذابنا ، ثم والأنكى من ذلك إنه ، هو نفسه ، قد خلق الجهنم والنار ليعذبنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.