إبراهيم الشهابي يكتب | مستقبل التيار القومي

0 550

نعيش كمجتمع حصاراً فكرياً طوال الوقت، بين اختيارين فكريين فرضتهم جولات وتحولات القرن التاسع عشر والعشرين، ألا وهما تيار فكري تفرضه حالة المجتمع الدولي ومصالحه وحتى صراعاته، ومشكلته أنه يعبر أكثر عن تغييب للهوية الاجتماعية والثقافية والحضارية المصرية ويستخدم كأداة ضغط، ومن ناحية أخرى تيار يتخفى تحت رداء الهوية لكنه يمثل كل أشكال الماضوية ويرغب العودة بنا إلى العصور الوسطى، ثم القومي تائه ومسجون في الأدوار الوظيفية التي صُنعت له منذ الحرب الباردة وحتى الان، إذ انطلق في قوميته العروبية تجاه تحالفات وهمية استخدمته بأكثر مما حالفته .

المصدر الأساسي في متاهة التيار القومي، أنه تمسك بالثوابت والشعارات ، واستخدم الاحتجاج لتحقيقها فقط ، ولم يضع اطار للفكرة القومية العربية بشكلها الشامل بموضوعية، وإنما اعتمد تقسيمات وتصنيفات بعضها أيديولوجي وبعضها اخترعته المزايدات بين الفصائل القومية وبعضها البعض . 

حوٌل التيار القومي فكرة العروبة البسيطة والواقعية والأكثر قبولاً للتحقيق في منطقتنا العربية، الى نزاع بدأ بين الناصرية والبعث، ثم تحولت القومية العربية الى إحتكار لدول بعينها تستخدمها في صراعاتها الجيوسياسية مع بعض الدول العربية الأخرى، إذ تحولت القومية العربية من حقيقة جغرافية حية وموجودة على أرض الواقع، يمكن تنفيذها عبر خطة تنموية وثقافية عربية شاملة، إلى تيارات فكرية أسهمت في تقسيمها سياسياً ونخبوياً وتم استخدام شعارات القومية لإدارة الصراعات الجيوسياسية في المنطقة العربية كلها. 

إن التحول الذى قادته ثورة يوليو 1952، لم يكن مشروع يسارياً، بقدر ما كان إنهاء للبنية الاجتماعية القديمة التي ورثناها من حكم الإقطاعيات من مرحلة القرون الوسطى، إذ أن العالم كان قد ودع مجتمع الإقطاعيات منذ بداية الثورة الفرنسية، وانتهى العالم منها بالكامل على أصداء الحرب العالمية الأولى.

استهدفت يوليو 1952 تحقيق نموذج الاستقلال عن كل تراث الاحتلال وأفكاره وتوازناته التي أدار بها الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمصر والمنطقة العربية، وهنا جوهر التحدي الحقيقي الذى نعيشه الأن، لأن المشكلة اليوم هو أن جميع النزاعات الفكرية الجارية داخل مواقع النخبة السياسية المصرية، كلها محصورة في اتجاهين .. إما ثورة يوليو 1952 أو ما قبلها، وكثيرون تغافلوا عن أن مسار مصر الاجتماعي قبل وبعد 1952 كان كله مسار وطني يستهدف الاستقلال عن الاستعمار. 

كانت مصر بعد ثورة يوليو 1952 في طليعة عملية التحرر من الاستعمار في المنطقة العربية، وتحملت مصر أعباء مواجهات الاستقلال ضد تراث الاحتلال القديم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، تلك المواجهات كانت جزءاً من حالة الحرب الباردة في معركة تأميم قناة السويس 1956 و 5 يونيو 1967، وفى أنتصار اكتوبر 1973، وقد حاولت مصر بعد الانتصار تأسيس نظامها السياسي والحزبي مع عودة الأحزاب السياسية . 

وقت استعادة التجربة الحزبية تم استدعاء كل التناقضات التي صنعها الاحتلال مرة أخرى، فتم استدعاء القوى والتوازنات التي صنعها أو أدارها الاحتلال وأعادت تجسيدها سياسيًا واجتماعيًا.

عندما تم استدعاء الإسلاميين المتطرفين لمواجهة اليسار والقوميين المتطرفين وتبعه بفترة استدعاء التيارات الليبرالية وبعض الطبقات السياسية ما قبل 1952، كان هذا بمثابة استدعاء لكل تناقضات القرن العشرين، بكل حروبه وكوارثه إلى الساحة السياسية والاجتماعية، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الحرب البادرة وتحديدًا عند لحظة حرب الاتحاد السوفيتي في أفغانستان. 

أكملت مصر بهذه الثلاثية المرعبة، ليبرالي معادٍ اجتماعيًا وسياسيا لمشروع يوليو 1952 وهو بالتأكيد أقرب شعوريًا لنموذج ما قبل 1952 دون إدراك منه أنه ينتمى لمشروع هندسه المحتل، ويساري من نواتج الحرب البادرة، يؤمن بالشعوبية ويستدعى معها كل الصراعات الطبقية والاجتماعية – إلا من رحم ربي – ، وإسلامي متطرف لا يؤمن بالدولة الوطنية وتمت صناعته لضرب نزعة الاستقلال الوطني تحت شعارات الخلافة الإسلامية في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتمت إعادة تدويره مره أخرى ليكون ورقة في يد الأمريكي لضرب السوفيتي وقت الحرب الباردة.

والقومي مشكلته الكبرى أنه انكسر نفسيًا مع 5 يونيو 1967، ووقع في شكل من أشكال التوظيف الاستراتيجي في صراع بين الناصرية والبعث تارة، أو الاستخدام كمخلب قط تحت شعارات الممانعة تارة أخرى. 

أن التيار القومي وُضِع في فخ تجربة تاريخية بعينها، وسجن نفسه فيها حتى اليوم، فإذا به أحتجاجي يضع خريطة خصوم وحلفاء تخطاها الزمن، وإذا به يرسم خريطة تحالفات سياسية تشاركه الشعارات لكنها في الوقت نفسه ليست حليفاً ولا تشاركه نفس الأهداف القومية العروبية، وأقصد هنا ما يسمى ضمناً بمحور الممانعة، الذى هو في حالة صراع مع الاحتلال الاسرائيلي لكن محتواه الفكري ومشروعه الجيوسياسي مناقض تماماً لفكرة القومية العربية.    

ليس ممكناً تصور أن أصحاب المواقف الطائفية أو المذهبية، هم الأحرص على الممانعة والقضية الفلسطينية ووحدة الصف العربي، فمصالحهم وأهدافهم الجيوسياسية مضادة بطبيعتها للقومية العربية، وهدفهم الاستراتيجي مضاد لأي جامع مشترك في المنطقة العربية، وهنا علينا أن نفسر كقوميين هل لدينا القدرة على تبني تصور قومي عربي واضح المعالم ولا يتم استخدامه. 

نحن اليوم في حاجة الى تيار قومي حقيقي، وليس استنساخ هزيل لاستخداماته، فليس معقولاً اليوم أن يُعاد انتاج تيار قومي يتخفى تحت عباءته الاخوان ثم يأتي ليتحدث عن كونه تيار تقدمي، أو يرفع الاخوان صورة الزعيم جمال عبد الناصر في الشوارع ثم يقول أحدهم أن الأخوان قوميون عروبيون، أو ان تقود إيران الحركة القومية العربية. 

ان مصر في حاجة الى تيار قومي حقيقي يعزز السيادة الوطنية ولا ينتقص منها، وينطلق في احكامه وحركته السياسية من تقدير موقف حقيقي عن اللحظة التاريخية الراهنة والأهم أن يدرك طبيعة التحولات الدولية والمسار الموضوعي للتاريخ، وأن يقرأ التاريخ بعمق ويفتح الخريطة ويفكر برؤية جيوسياسية مصرية، نعم نحتاج الى تيار لديه بوصلة واضحة المعالم، وليس مجرد معٌبراً للألعاب الجيوسياسية الى الداخل المصري. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.