ثائر أبوصالح يكتب | علاقة الوعي بالزمكان

0 212

اعتقد أنني لا أبالغ إذا ادعيت، إن الزمان والمكان (الزمكان) يعتبران من اعقد المفاهيم الفلسفية والعلمية، لأنهما يمسا جوهر وجود كل الكائنات والمخلوقات من انسان وحيوان وجماد. فلكل شيء في هذا الوجود بداية نسميها الولادة أو الإحداث، ونهاية نسميها الموت او الفناء، وبين البداية والنهاية هناك صيرورة نسميها الحياة ونحسبها زمنياً ونموضعها مكانياً. فلولا وجود الزمان لم يكن هناك بداية ولا نهاية ولا صيرورة، عندها تصبح المخلوقات أزلية أي ليس لها بداية، أبدية أي ليس لها نهاية، وسرمدية أي دائمة ولا تنقطع عن الوجود. وهذا الصفات نطلقها فقط على خالق هذا الكون، لأننا نعتبره فوق الزمان والمكان، فلذلك نقول إن الله أزلي سرمدي أبدي.
علمياً، الزمان والمكان تشكلا بعد حدوث الانفجار العظيم (The big bang)، حيث تشكلت ذرة الهيدروجين ثم الهيليوم وتسلسلت التكوينات الى أن وصلنا الى هذا الكون الفسيح، الذي أثبت العلم أنه مازال يتمدد وبتسارع عبر الزمكان. وكان ذلك قبل حوالي 13.8 مليار سنة من سنواتنا. العلم استطاع أن يصل الى دقة متناهية في حساب بداية الانفجار، ولكنه يجهل حتى اليوم أسبابه، وهل هو من فعل فاعل كما يقول الذين يؤمنون بوجود خالقٍ أبدع هذا الكون من خلال وجوده وعلمه وارادته، أو أن هذا الوجود كان محض صدفة. هذا النقاش بدأ منذ وجود الإنسان العاقل على هذا الكوكب، ولا اعتقد أنه سيحسم الا على مستوى الأفراد الذين سيصلون الى الحقائق المرضية لهم بجهدهم الخاص.
لقد تعامل نيوتن مع الزمن على أنه مطلق بالنسبة لكل الكائنات، وأن الكتلة ثابتة، الى أن جاء اينشتاين ليصحح هذه المقولات، فأثبت أن الزمن نسبي والكتلة متغيرة. واعتبر أن أكبر سرعة في هذا الوجود هي سرعة الضوء والتي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، وقال إنه لا يمكن تجاوز سرعة الضوء لأن الكتلة تزداد مع زيادة السرعة، وإذا ما وصلت الى سرعة الضوء ستصبح لا نهائية وستحتاج الى طاقة لا نهائية لتحريكها وهذا مستحيل. واثبت اينشتاين أنه كلما ازدادت سرعتنا يبدأ الزمن بالتباطؤ، والزمن سيتوقف عندما نصل الى سرعة الضوء، وإذا افترضنا أننا قادرون على تجاوز سرعة الضوء فسيبدأ الزمن بالعودة الى الوراء أي للماضي.
من هنا أصبحت أيضاً مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل وهمية تخص الزمان والمكان، فنحن كبشر يستحيل علينا رؤية الأشياء وقت حدوثها، فكل ما نراه ونعاينه في اللحظة الأنية، هو ماضٍ وليس حاضراً، فعندما ننظر للشمس على سبيل المثال، فنحن نراها على ما كانت عليه قبل ثمان دقائق، لأن ضوء الشمس يحتاج الى هذه المدة ليصل الينا، حتى الأشياء القريبة منا نرى ماضيها حتى لو كان ذلك بفارق أجزاء من مليار الثانية. فعندما ننظر الى السماء قد نرى نجوماً هي بالحقيقة قد اندثرت وغير موجودة اليوم.
ولتوضيح فكرة وهمية الحاضر والماضي والمستقبل، لنفترض أن الأرض موجودة بين كوكبين، الأول يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، والثاني خمس سنوات ضوئية، ولنفترض أنه حصل انفجار على الكوكب الذي يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، فإننا سنراه على الأرض بعد أربع سنوات، وسيراه المتواجدون على الكوكب المقابل بعد تسع سنوات، فنحن على الأرض سنرى ماضي الكوكب الموجود على بعد أربع سنوات وحصل عليه الانفجار، ومستقبل الكوكب الموجود على بعد خمس سنوات، لأنه سيرى الانفجار بعد تسع سنوات، ولذلك أصبحت مفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل متداخلة.
من هنا فإن الزمن نسبي لكل شخص ويتعلق بالوعي، فالشخص النائم أو فاقد الوعي لا يشعر بوجود الزمن، لأن الزمن خارجي ويتعلق بالحواس، فقط عندما نغلق نوافذنا عن العالم الحسي ونتجه الى العالم الداخلي ينتفي بالنسبة لنا الزمن، وعندما نفتح نوافذنا على العالم الحسي من جديد نعود الى وطأة الزمان والمكان. فزمننا يتعلق بقدرة وعينا على استيعاب سرعة حركة الأشياء الحسية، فلو كانت عيوننا وأدمغتنا قادرة على رصد ومتابعة واستيعاب تسلسل الأحداث التي تجري أمامنا بسرعة تساوي خمسة أضعاف قدرتها الحالية، فالفلم الذي نحتاج لرؤيته اليوم ساعة كاملة من الزمن يمكننا رؤيته بعشرين دقيقة، لذلك قدرتنا على وعي الأشياء تحدد الزمن بالنسبة لنا. ولو افترضنا أننا نستطيع القراءة بسرعة الضوء عندها سيصبح وعينا لا نهائي ويتوقف الزمن تماماً.
من هنا فإن الزمن الخارجي مرتبط بالوعي الداخلي، فكلما زادت سرعة وعينا بالأشياء كلما أصبحنا أكثر قدرة وأكثر تطوراً. لنتصور للحظة أننا قادرون على تعلم المنهاج الجامعي خلال شهر أو يوم بدلاً من ثلاث أو أربع سنوات، كيف كان ذلك سيؤثر على تطور البشرية وعلى مفهومنا للزمن؟ من هنا فان جدلية العلاقة بين العالم الخارجي المحكوم بالزمان المكان والعالم الداخلي الباطني القائم على الحدس والإلهام هو أساس وجودنا وتطورنا. ان أهم النظريات العلمية خصوصاً في الفيزياء كانت بدايتها حدساً والهاماً، كان العالم يتصور الحلول للمعضلات العلمية، ثم يتحقق منها بالمعادلات الرياضية، ومن ثم يتم اثبات صحتها في العالم الحسي من خلال التجربة بحال كان هناك إمكانية عملية لإجراء تجربة. هناك نظريات بقيت قيد التشكيك عشرات السنين الى حين تم اثباتها بالتجربة العملية. فعلماء الفيزياء الكمية يتكلمون منذ فترة عن إمكانية وجود اكوان متوازية ولكن حتى الأن لا يوجد اثبات لهذه النظرية.
بناءً على فهم هذه العلاقة الوطيدة بين عالمنا الداخلي والخارجي، وجب علينا إيلاء العالمين نفس الأهمية على الأقل، وألا ننخرط في عالم على حساب الثاني. عالمنا الداخلي عالم متطور جداً وغني بما لا يقاس بالعالم الخارجي، فقط علينا اكتشافه وسبر أغواره، فهو عالم لا نهائي يستطيع الفكر من خلاله أن يتطور ويتمدد ليحيط بكل هذا الكون، في حين أنه يتحدد في العالم الخارجي بالزمان والمكان، ولذلك يصبح محدوداً. فالمعرفة هي “تذكر واسترجاع anamnesis”. كما يقول سقراط، فمن خلال محاوراته مع الأخرين كان يجعلهم يصلون الى الحقائق لوحدهم من خلال طرح الأسئلة مع أنهم جهلة كما يقول سقراط. ان استطعنا الوصول الى اعتاب الروح العالمة والتي تقبع فوق الزمان والمكان تأتينا المعرفة عن طريق الإلهام، ولكي نصل الى هناك علينا ترويض نفوسنا ليسطع عليها نور العقل، وذلك من خلال المسلك السّوي القائم على التوازن، لا افراط ولا تفريط، بين الداخل والخارج، لتصعد نفوسنا في سلم معراجها العرفاني لتلامس عالمها الحقيقي راضية مرضية، أي عالم العقل أو الروح، عندها تستطيع أن تعاين الأشياء وتختصر السنوات الضوئية من أجل الحصول على المعرفة الحقيقية والتي هي جنة العرفان المنشودة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.