حسن مدن يكتب | الحقيقة في مكان ما

0

يقال عادة إن الحقيقة نسبية. إنه قول صحيح إذا ما اعتمد قاعدة في التعامل بين البشر، كي لا يحتكر أحدهم الحقيقة، ويرى فيما يعتقده هو أو يراه حقيقة مطلقة، وأن ما سواها باطل؛ لأن أمراً كهذا سيؤدي به إلى القول: «وحدي على حق، وما يراه الآخرون ضلال».

من حق أي إنسان أو جماعة تبني أية قناعة أو وجهة نظر، ومن حقهم الدفاع عنها، والسعي ما أمكن إلى إثبات صحتها، بل ومجادلة الآخرين فيما يرونه، لتبيان أن مواقفهم خاطئة، ولكن كل هذا يجب أن ينطلق من منظومة قيم تراعي الثوابت الأخلاقية التي ترى أن في احترام الآخر المختلف احتراماً للذات.

تعميم هذا الرأي ينطوي، بالمقابل، على أوجه خطورة أيضاً. لا يصح أن نعتبر الظلم والعدوان ونهب الحقوق مجرد وجهة نظر، يترتب عليها تجريم من يكافحون ضد كل هذه الآثام، لا يصح مساواة الظالم بالمظلوم والمعتدي بالمعتدى عليه، والفاسد بالنزيه، وكل ما يتصل بهذه الثنائيات التي لا تحتمل النسبية، كونها مسلمات تراعيها المجتمعات والدول، وتحرص على تثبيتها في ما تضعه من دساتير وتشريعات، لتنظيم حياة البشر، والانتقال بها من شريعة الغاب إلى التحضّر.

اعتماد نسبية الحقيقة كقاعدة ناظمة لعلاقات البشر، لا ينفي أن الحقيقة نفسها، كقيمة مطلقة، موجودة في مكانٍ ما. الإشكالية ليست في وجود الحقيقة أو عدم وجودها، وإنما في الادعاء بامتلاكها من أفراد وجماعات، فالجزم بأمر مثل هذا ليس صعباً فقط، وإنما قد يكون مستحيلاً.

حين ننتقل من الحاضر إلى التاريخ، سنجد أن الأمر في هذا الأخير لا يقل صعوبة، وإنما قد يزيد. مؤلف كتاب «كيف نفهم التاريخ؟»، لويس جوتشلك، وقف في أحد مواضع الكتاب عند «تباين المصادر»، حين يعثر المؤرخ على نصين أو أكثر لنفس الوثيقة، فما بالنا إذا تعددت الوثائق التي تتناول الواقعة نفسها بسرديات متناقضة؟

في التاريخ الحديث، يقول المؤلف، آلاف السجلات والمكتبات والأكوام والأقبية وملفات القضاة والمحاكم والأطباء وعلماء الطب النفسي والمتاجر والهيئات والجيوش، وما إليها، وما أكثر ما تقع يد المؤلف على نسخة مخطوطة أو مكتوبة على آلة كاتبة، تعنى بحدث ما، يحسبها أصلية، قبل أن يكتشف أنها نسخة محرفة، أعادت كتابة الواقعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.