د.أسامة السعيد يكتب | لماذا أراهن على واقعية “30 يونيو”؟

0 400

على مدى 150 عاما، هي عمر الحياة النيابية في مصر، والتي يمكن اعتبارها أيضا عمر الحياة السياسية الحديثة في البلاد، مررنا بالعديد من المعطفات التي شكلت تاريخا متباين المراحل، بداية مما يمكن أن نطلق عليه “القوى السياسية المصنوعة” في العقود الأولى من حكم أسرة محمد علي، مرورا بالتعددية السياسية النسبية في المرحلة الليبرالية التي أعقبت إصدار دستور 1923، وصولا إلى تجربة التنظيم السياسي الواحد طوال الحقبة الناصرية، ثم العودة إلى التعددية السياسية منذ عام 1976.
وخلال تلك المسيرة الطويلة، كان للثورات الكبرى التي شهدتها البلاد بصمتها الواضحة على الحياة السياسية، فبينما أطلقت ثورة 1919 الحقبة الليبرالية عقب إصدار دستور 1923، بكل ما احتوته تلك الحقبة من صراعات واستقطابات سياسية بين القوى السياسية والاجتماعية المهيمنة: القصر والاحتلال البريطاني وكبار الملاك، لكنها لم فشلت في تحقيق ديمقراطية حقيقية تعكس إرادة الشعب، فحزب الوفد – صاحب الشعبية الطاغية آنذاك- لم يحكم طيلة 29 عاما (1923-1952) سوى سبع سنوات وسبعة أشهر وأربعة وعشرة يوما (!!)، بينما تصدرت أحزاب الأقلية المشهد السياسي، وربما كان ذلك دافعا لما أقدمت عليه ثورة 23 يوليو 1952، بحل الأحزاب واتباع أسلوب التنظيم السياسي الواحد، بعدما تصوروا أن ذلك هو السبيل الوحيد لإصلاح الحياة السياسية، والذي كان أحد أهداف الثورة المعلنة.
ولأن ثورة 30 يونيو 2013 تمثل واحدة من أبرز ثورات المصريين الشعبية في عصرنا الحديث، ولأنها ثورة مدنية أعادت ترميم العديد من أعمدة الشخصية المصرية، بعد سنوات من محاولات التشويه والتضليل والهدم المتعمد لتلك الشخصية، كما اجتذبت تلك الثورة جموعا واسعة غير مسيسة من المصريين إلى ساحة الفعل والتأثير الوطني، عندما استنفرتهم من أجل إنقاذ وطن كان على حافة الهاوية، فإنني أتصور أن تلك الثورة تستحق أن تضع بصمة مختلفة على الحياة السياسية، تستفيد من دروس الماضي دون أن تكرر أخطائه، وتبني المستقبل دون أن تفقد أصالة استنادها إلى تاريخ سياسي عريق.
وأتصور أن جيل ثورة 30 يونيو، صناعا ومشاركين وحتى مستفيدين يمتلكون عددا من السمات المهمة التي تمكنهم بكثير من الوعي والعمل والجهد والجدية أن يقدموا ملامح لتجربة سياسية إصلاحية تليق بثورة مدنية عظيمة، وأول تلك السمات هي الواقعية وعدم الانسياق وراء الأيديولوجيات العمياء، فالغالبية الكاسحة من صناع ومؤيدي 30 يونيو ليسوا من أسرى النظرة الحزبية أو الأيديولوجية الضيقة، ولا تتحكم فيهم الأحلام الرومانسية الواهمة التي تحجب عن أعينهم رؤية الحقائق، وتدفعهم إلى التعامي عن رؤية الواقع بسبب تقيدهم برؤية حزبية أو أيديولوجية أحادية اللون، أو محدودة الأفق.
هذا الجيل، قادة وشبابا، يمتلك من الموضوعية والواقعية ما يجعله قادرا على التعامل بانفتاح، وتقبل الاختلاف بصدر رحب، طالما كان هذا الاختلاف في رحاب الوطن، ومن أجل بنائه، وليس اختلافا على الوطن وبما يقود إلى هدمه!!
من هنا أتصور أن واقعية وانفتاح 30 يونيو وأجيالها المختلفة، تصلح لأن تكون بداية بناء قاعدة وطنية تتسع للجميع، وأعتقد أن التجارب السياسية التي ظهرت بشائرها في السنوات الماضية تكشف بجلاء عن صحة هذا التوجه، فتجارب مثل: البرامج الرئاسية لتأهيل الشباب، ومنتديات الشباب المتعددة بنسخها المصرية والدولية، والأكاديمية الوطنية للتدريب، وتنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، كلها كانت ولا تزال أدوات مهمة وساحات مؤثرة لتفاعل راقٍ بين الكثير من الشباب متنوعي الأفكار والأراء والانتماءات السياسية في تجربة وطنية صادقة، ركزت على مساحات التوافق، ومنحت الفرصة للتقارب والنقاش العقلاني الهادئ فيما يتعلق بنقاط الاختلاف.
من هنا أعتقد أن دعوة الحوار الوطني من أجل إطلاق نقاش متعمق حول مستقبل الجمهورية الجديدة تمثل بالفعل لحظة مهمة في تاريخنا السياسي المعاصر، ومناسبة حقيقية من أجل صنع شيء نفتخر به جميعا.. اللحظة الراهنة التي تعيشها مصر فرصة جديدة وجادة، أتمنى ألا ندعها تفلت من أيدينا- مثل فرص عديدة سابقة- لتحقيق إصلاح جذري وإنطلاقة واثقة وواعية نحو حياة سياسية تتجاوز تجارب الماضي، وتستجيب لأحلام المصريين المؤجلة منذ عقود.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.