طارق حربي يكتب | متحف بان دام أو البيت الأسود.

0 200

البان في اللغة التايلندية تعني البيت والدام تعني الأسْوَدْ، ويقع متحف البيت الأسْوَدْ الى الشمال من مدينة شيانغ راي الواقعة في شمال تايلند ويبعد عنها حوالي 10 كيلومترات، وهو عكس المعبد الأبيض الذي يمنح الأمل ويعطى انطباعاً بأن الحياة هبة لكن يجب التطهر من أدرانها وصولاً إلى مرحلة الأستنارة الكاملة، تُسمع في جنبات البيت الأسود أصداء الموت وليس له أهمية دينية لدى التايلنديين!، وهو في الأصل ستوديو ومنزل لمصممه الفنان الراحل ثاوان داشان Thawan Duchanee (1939-2014)، بوذي متدين وأغنى فنان في تايلند، وبدأ العمل به في سنة 1976 ، أي قبل بدء فنان المعبد الأبيض في عمله بسنة واحدة.

درس ثاوان الفن في جامعتي بانكوك وأمستردام، وصدم في عدد من أعماله لاسيما البيت الأسود الشعب التايلندي، حتى اتهمه البعض بالخروج عن مألوف التقاليد المحلية وعدم احترام الديانة البوذية!، ما أدى إلى قيام بعض المتشددين إلى مهاجمة لوحاته في المعارض!، مع ذلك تلقى الفنان دعماً من شخصيات بارزة في تايلند، وزَيّنَتْ لوحاتُه جدران عدد من سفارات تايلند ومكاتب الشركات، كما اعتبرته الحكومة فناناً وطنياً ومُنح جوائز محلية ونال تقديراً عالمياً.

يقول الفنان إنه استلهم أعماله من ثقافات محلية من مملكة لانا (مملكة المليون حقل ارز) في شمال تايلند، ولان تشانج وهي مقاطعة سابقة لمملكة تايلاند وتقع في المنحدرات الشرقية لسلسلة لوانغ برابانغ الجبلية في لاوس، وسوفار نافومي (وهو اسم مطار العاصمة بانكوك الدولي أيضاً) وتعني الأرض الذهبية، وقد ربطتها المصادر القديمة بواحدة من مجموعة متنوعة من الأماكن في جميع أنحاء منطقة جنوب شرق آسيا.

يبدو البيت الأسود من بعيد شبيهاً بمعبد لكنه يفتقر إلى الروح المتجلية في المعابد البوذية، سواء في تايلند أم في دول جنوب شرق آسيا، فهو مزيج من فن العمارة الشمالية التقليدية والتصاميم الغربية، وما تمخض عنهما من سواد وكآبة ممدودة صِيغتْ في رؤية سريالية!

فإلى يسار المدخل الرئيس ثمة مبنى خشبي كبير، على هيئة معبد بوذي تايلاندي تقليدي مع سقف متعدد الطبقات على طراز لانا، وتمثال لبوذا ومنحوتات الثعبان ناجا، سائحة صينية شابة غاية في النعومة أضافت إلى ابهة باب المعبد العالي، غَنَجَ أنثى رغبتْ في أن ترقص وقامت أمها عن بعد بتصويرها!

قرون الثيران وجلود التماسيح ورؤوسها وجلود النمور وعظام الحيوانات والثعابين لاسيما الناجا، نحت على الخشب لعوالم بوذية وأرواح هائمة في هالة خشبية وزخارف لعوالم متخيلة من الخير والشر، وأشجار عُلّقَتْ في أغصانها نقود تايلندية، وأعضاء تناسلية ذكرية وُضعتْ على كراسي ذوات أبهة ملكية، وموسيقى محلية ناعسة تشيع في المكان الهدوء والسكينة.

إلى اليسار طاولة خشبية ضخمة من عصر الفايكنغ، محاطة بكراسي سوداء كبيرة أرجلها مصنوعة من قرون الثيران، مزينة بجلود الثعابين والتماسيح، مشهد يحيل إلى أجواء محاكمة ما، أو جلسة حوارية في مأساة أغريقية!

40 مبنىً بأشكال وأحجام مختلفة موزعة في حديقة المنزل الكبيرة، 15 بيتاً منها مؤثثاً ببقايا حيوانية، تتراوح ألوان المباني بين الأسود والبني الداكن، وأبواب ضخمة مهيبة وأبعاد ملحمية، الفن هنا يعطي شعوراً بالشر، ثمة هالة سوداء تحيط بالمبنى الرئيس تبدأ من الباب الأسود المهيب!

إلى اليمين خارج الجسم الرئيس للمتحف هنالك ثلاث غواصات بيضاء اللون، غير مسموح بدخولها إلّا واحدة، مُلِئَتْ مساحاتُها بالكراسي والقواقع البحرية وقرون الحيوانات والتماسيح السوداء الجيرية، وتماثيل بأعضاء ذكرية سوداء منتصبة، مما يحيل إلى غرابة في التصورات السادية وانطباع عن آلام غرف التعذيب!

لقد أعاد الفنان لصق وترتيب القرون ورؤوس الثيران بشكل لا يحيل إلّا إلى الموت والشر، فثمة طاولة في الجسم الكبير فُرِشَ عليها جلد تمساح ضخم مطلي باللون الأسود محاطاً بالشموع، كذلك في إحدى الغواصات فرش جلد تمساح على الأرض حوله أربع شموع محاط بكراسي على محيط الدائرة، وهي مصنوعة من قرون الثيران ومصبوغة باللون الأسود تحت كل كرسي صدفة بحرية، وعلى مبعدة حوالي 50 متراً هنالك قاعة فيها طاولات غطيت بجلود الأبقار، صُفَّتْ عليها أصداف بحرية وقرون أيائل وصوف أغنام مفروشة على الكراسي، عالم كامل من بقايا الحيوان لا يخلو تأويلياً من إشارات إلى المرض والشيخوخة والموت، وهي الأطوار التي مرَّ بها بوذا في خلواته التأملية ومعاناته قبل مرحلة الاستنارة الكاملة.

لكن خلا البيت الأسود من المتع العقلية التي وفرها المعبد الأبيض لزائريه الراغبين وأنا أحدهم بزيارته مرتين أو ثلاثة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.