عباس علي العلي يكتب | سورة يوسف .. جمالية الأداء وعلمية الطرح (٣ – ٤)

0 286

من سلسلة القصص التي تكون هيكل قصة يوسف بعد أن قرر الملك أن يدعه السجن وتمنح القارئ جوا من الجدية والصرامة بعد الفسحة التي كانت قبل ذلك، واتصالا مع ذات الرؤيا التي سبق وأن أخبر بها أبيه يعقوب مسألة تعبير الرؤيا، فهو فوق كونه نبي وذا علم ومعرفة بتأويل الأحاديث، أظهر ميزة لمن لا يعرفه أنه معبر للتأوبل الخاص بالأحلام، لذلك أطلق عليه لاحقا المعبر أو العبري أشتقاقا من فن التعبير عن الرؤيا، في الرؤيا التي قصها رفيقيه في السجن وكم كان التعبير مناسبا للحال (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ)، التعبير اللفظي هنا بشير إلى حالة لم ينتبه لها الكثير من المفسرين والمتدبرين، أن يوسف لم يدخل السجن لوحده، بل كان واحدا من ثلاث أشخاص كلهم لهم علاقة بالملك، والدليل كلمة دخل معه ولم ينص التعبير أنه دخل السجن فتيان أو وجد الفتيان قبله أو بعده في السجن.
تبدأ الحكاية التي نحن بصددها وهي مفتاح النجاة له من باب الضيق والشدة لنعلم من تدبير القصة أننا قد لا نعلم نتائج ما بين أيدينا من حدث إلا ما هو ظاهر، فدخول يوسف السجن هو بداية التمكين وبداية قصة العودة للسلالة الإبراهيمية ولقاءه بأخوته، فلو بقي في القصر بدون أن يدخل السجن ربما لم يسمع بقصة رؤيا الملم ولم يخبر أحدا الملك بوجود من يعبر له الرؤيا، لتكون البداية الثانية في حياته وهي البداية الأهم (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، في موضوع الجمال السردي وهو هدفنا من هذه المقالة نرى أستخدام التعبيرات الموحية بماهية الشخص المتكلم، فقد عرف الأول نفسه “عاصر الخمر” وليس كما يشاع بالتفسيرات الأعتباطية ساقي الخمر الذي يشله مهنة النادل اليوم، وحتى في النص اللاحق الذي ذكره يوسف (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا)، فالسقي هنا هو نتيجة كون السائل هو الشخص المسئول عن عصر الخمر للملك من دون الجميع، وبالتالي ما يصنعه من عصيره هو ما يسقى للملك، فيكون هو الساقي أو الشخص الذي يسقي ربه بمعنى مالكه وملكه خمرا، فالسقاية هنا تشبه السقاية الواردة في نص أخر بخصوص أهل مكة، السفاية مثل عمارة البيت الحرام هناك أشخاص مسئولين عنها وليس بمعنى هم من يقوم بفعل السقاية والعمارة.
الجمالية التي نشير لها في هذه الصورة لا تقتصر فقط على طريقة السرد والعرض والبيان والبلاغة اللغوية الرائعة، لكنها أيضا جمالية علمية بمعنى أن المفردة العلمية أو الطرح العلمي الغير مباشر في النصوص تأخذ محنى علميا طبيعيا لكن دون صرامة وحدية الطرح العلمي، لو أستعرضنا مثلا الجوانب النفسية العلمية المطرحة أو تلك التي أراد النص الإشارة لها نجد الكثير من مظاهر الجمال الباذخ هنا، في ظاهرة الإنفعالات الذهنية التي يتناولها علم النفس بالدراسة والتحليل يعتمد دورها على أولا طريقة تعرض الفرد للذهول وثانيا دور المفاجأة في إحداثه، عملية الذهول تجر الإنسان إلى عالم مشتت يفقد فيه شعوره بالواقع، لأنه مأخوذ بحالة غيبوبة مؤقته لا يدرك فيها ما يجري له، لحد الوصول إلى نقطة اللا شعور الحسي، أنظر تطبيق هذه النظرية وكيف عرضها النص بجمالية ملفتة للنظر (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)، لا أظن أن نصا علميا يشرح الذهول وأسبابه ومؤثراته ونتائجه يمكن أن يختصر ببعض كلمات نظرية علمية مع الألتزام بجمالية الصورة والمتن معا.
ليس فقط هناك إشارات نفسية وقد تكون نظريات علمية حقيقية في مدارها التخصصي، أيضا هناك إشارات واضحة ومفهومة لبعض من أهم جوانب الحياة السليمة، الحياة التي تدار بالإدارة والتخطيط وفهم طريقة التعامل مع الأزمات والتبدلات المناخية نتيجة العوامل الطبيعية، فقد قدمت السورة أيضا دروسا عملية مهمة إرشادية لم ينتفع منها الإنسان عامة والمسلم خاصة في إدارة أمور حياته حتى تم تقنينها نظريا وبرامج حديثة تحت عناوين عدة، هذا التقصير سببه تمسك القراءات التفسيرية والتدبيرية دوما بالنص والبحث عن الأحكام المقيدة والمرخصة لما يعرف بالحلال والحرام، لنضرب مثلا جميلا مما ورد في السورة (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)، هذا التنظيم العالي والإدارة الرشيدة لم سيبق لأي نص ديني أو وضعي بشري أن صاغها وقدمها مختصرة وبالمثال العلمي دون أن يصطدم بالمصطلحات والأفكار المنافسة والتعقيد والإطالة في الشرح والتقديم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.