عبد الله تركماني يكتب | حدود الثقافة السياسية العربية

0 138

يبدو أننا أمام صعوبة كبيرة في اكتشاف قواعد اللعبة المعقدة، التي حكمت التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية، لما آلت إليه الحالة العربية. خاصة وأنّ الفكر السياسي العربي اعتاد على تحميل القوى الغربية كل بلايا التأخر العربي، وأطلق العنان لديماغوجية رنانة تجعل من العداء للإمبريالية والصهيونية (وهو عداء مبرر تاريخياً وواقعياً) وسيلة للتنفيس عن الغضب، وصبَّه على العامل الخارجي الذي أصبح ” شيطان العرب “، ليعفي العامل الداخلي من النقد. كما يبدو أيضاً أنّ الثقافة السياسية العربية تعلقت بالشعارات الزاعقة، والصيغ الجامدة، وعجزت عن ترجمتها في الحياة باستيعاب إنجازات العلم والمعرفة والتنظيم الاجتماعي الحديث وتفجير الطاقات الخلاقة لدى شعوبنا العربية، أو تكريس أولوية المصلحة العامة باعتبارها المبدأ الحاكم للفضاء العام.
فما هي أوجه القصور المحتملة في تفكيرنا السياسي؟ وكيف نفكر في السياسة كي تتطور لدينا معرفة سياسية مثمرة؟
تتعدد أوجه القصور في الثقافة السياسية العربية: فمن جهة، تهيمن الأدلجة العميقة على العقل السياسي العربي المعاصر بصفة خاصة، مما جعله لا يهتم إلا بالعموميات وينسى التفصيلات. ومن جهة ثانية، لا يمتلك الوعي المطابق لحاجات الواقع العربي.
يبدو أن ثمة عاملين “خفيين” يجعلان معرفتنا السياسية بلا محصول: أولهما ” الخصوصية “، وثانيهما ” المؤامرة “. إذ من غير المرجح لثقافة تهيمن فيها فكرة الخصوصية أن تتمكن من تطوير معايير ونظريات متسقة لضبط العالم من حولها وتنظيمه، ولتطوير سياسة كبيرة أو حيازة أهلية لسياسة العالم. أما عقيدة المؤامرة فهي شائعة عند الحكومات، وعند جمهور شعبي واسع. وخلاصة الأمر أنّ التشكيلة التآمرية تحكم على معرفتنا السياسية بالسطحية والسذاجة وضآلة المردود.
في الواقع، فإنّ الإدراك الخاطئ للعالم الخارجي يقود إلى تشخيص خاطئ للمشاكل، وطرح حلول غير صالحة لا تقود إلا للفشل، وهذه سمة من سمات الثقافة السياسة العربية في التاريخ المعاصر، وزادت شدة هذا الانحراف في العقود الأخيرة. فالعرب يقدّرون إمكانياتهم بمبالغة، ويقزّمون إمكانيات أعدائهم. كما أنهم يرون مجمل السياسة الغربية هي مؤامرة، ليس لها إلا هدف واحد هو القضاء على الحلم العربي.
كما أنّ التركيز على المشكلة الرئيسية وتحديد الأولويات لم يكن سمة من سمات السياسة العربية ولا سمة من سمات التفكير السياسي العربي، مما أدى إلى استنزاف الموارد الاقتصادية والبشرية في مساعٍ ليست ذات جدوى. ثم أنّ الثقافة السياسية الحقيقية غدت مغيّبة ومستهجنة، فتلاعبت العواطف دوماً بأهواء مجتمعاتنا، وطغت عليها شعارات واهية، كما وتحكمت السرعة في قرارات السلطات فيها. وغدا أغلب العرب لا يؤمنون بالنفع العام ولا المال العام، وليسوا بقارئين ولا بمدققين، أعداء للحداثة، عاشقون للتعصب وللتطرف، لا يحبون العمل الجماعي، يرددون الشعارات من دون تفكير مسبق بها، لا يصححون مفاهيمهم القديمة.
ويبدو أنّ أغلب مجتمعاتنا لم تجد فسحة من التغيير من أجل بناء وعي جديد بالزمن والتقدم، فهيمنت على العقول تلك الأوهام السياسية العمياء، وعمَّ الاضطهاد والاستبداد، فلا أية مساحة للرأي الآخر، بل ولا حتى هامش صغير للحريات، ساد القمع والكبت في كل مكان، كل هذه وتلك جعلت مجتمعاتنا تتفكك، ونخبها تهاجر، وأجيالها تنغلق، وشارعها يصمت.
وهكذا، فإنّ جذور إشكالية الأداء السياسي العربي تتمحور حول أسلوب الأداء السياسي الذي لا يواكب التطورات والمستجدات الفكرية والسياسية والاجتماعية، إذ إنّ جزءاً من أسباب وأزمة العجز العربي أنّ البعض مازال عاجزاً عن إدراك الحقيقة القائلة بأنّ قواعد اللعبة السياسية التي كانت سائدة إبان حقبة الحرب الباردة‏ (1945‏ – ‏1991)‏ قد تلاشت تماماً وحلت محلها قواعد جديدة‏،‏ تستوجب من الذين يريدون حماية أوطانهم وتقدمها سرعة إعادة النظر في رؤاهم السياسية لكي تتكيَّف إيجابياً مع قواعد اللعبة الجديدة في السياسة الدولية، بما يخدم المصالح العربية العليا. فيما يطغى على غالبية أنظمتنا السياسية شلل سياسي فاضح، ينطوي على معادلة تحفظ وضعية أغلب الحكام من دون أن يكلف هؤلاء أنفسهم عناء مراجعة أدائهم السياسي ووضعه في ميزان النقد البنّاء، بما يساهم في دفع عملية إصلاح الواقع السياسي الذي تعاني منه شعوبنا.
لا شك أنّ هناك مسؤولية للعديد من النخب السياسية التي أنتجت رؤية بيروقراطية وأمنية ثقيلة ركزت على إخماد حيوية المجتمعات العربية، وإجبارها على الاستقالة من الساحة السياسية والثقافية وإخراجها من التاريخ لضمان انفراد الرئيس أو الزعيم بكل الفضاء السياسي الوطني، مهما كان حجم القهر اللازم لإنجاز المهمة. كما هناك مسؤولية العديد من المثقفين الذين سلّموا لسلطة الجهل والقهر، وفشلوا في إنتاج معارف ونماذج للسياسة والفعل الاجتماعي تطلق جدلية التقدم والإنجاز، متجاوزة القوالب الأيديولوجية المبسطة، وتحل معضلة العلاقة بين التغيير في الداخل والحد من تدخلات الخارج.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.