عبد المجيد إسماعيل الشهاوي يكتب | الدين في العراق القديم

0 377

ذُكرت ’مهد الحضارة‘ العراق القديمة باعتبارها منشأ الدين. لا نعرف بالضبط متى تطور الدين في بلاد ما بين النهرين، لكن تاريخ أولى السجلات المكتوبة للممارسة الدينية يعود إلى 3500 قبل الميلاد من سومر. قضت المعتقدات الدينية العراقية القديمة بكون البشر عمال مشاركون مع الآلهة وعملوا معهم ومن أجلهم لصد شرور قوى الفوضى التي سبق وقيدتها الأرباب العليا في بداية الزمان. فالآلهة قد خلقت النظام من الفوضى، وهو المبدأ الذي توضحه إحدى أشهر الأساطير حول الإله العظيم مردوخ الذي هزم تيامات وقوى الفوضى لكي يخلق العالم. يكتب المؤرخ د. بريندان ناجل:

“رغم انتصار الآلهة المؤكد، ما كان هناك من ضامن ألا تستعيد قوى الفوضى قدرتها وتعبث في خلق الآلهة البديع الصنع. كان الآلهة والبشر على حد سواء منغمسون في نضال أبدي لتحجيم قوى الفوضى، ولكل منهم دوره الذي يؤديه في هذه المعركة الدراماتيكية. وتمثلت المسؤولية على عاتق سكان المدن العراقية القديمة في تزويد الآلهة بكل ما يحتاجون لكي يديروا العالم.

في حقيقة الأمر، قد خُلق البشر من أجل هذا الغرض بالذات: العمل مع الآلهة ومن أجلهم صوب غاية مفيدة للطرفين. وهنا لا يصمد زعم بعض المؤرخين بأن العراقيين القدماء كانوا عبيداً لآلهتهم، لأنه كان واضحاً تماماً أن الناس فهموا موقعهم كعمال مشاركون. وكانت الآلهة تكافئ البشر مقابل خدماتهم عبر الاعتناء باحتياجاتهم اليومية في الحياة (مثل إمدادهم بالبيرة، شراب الآلهة) وتدبير العالم الذي عاشوا فيه. كانت تلك الآلهة تعرف معرفة وثيقة احتياجات الناس لأنها لم تكن من نوعية الكيانات البعيدة التي عاشت في السماوات العلى، بل كانت تسكن بيوتاً على الأرض أقامتها لها أقوامها؛ ومن تلك البيوت شيدت المعابد التي زينت كل مدينة عراقية قديمة.

اعتبرت مجمعات المعابد ذات الزقورة المدرجة بمثابة بيوت الآلهة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث كان الكهنة والكاهنات يتولون إطعام تماثيلها واستحمامها وإلباسها يومياً تماماً كما يفعل الخدم مع ملكهم أو مليكتهم. وفي حالة مردوخ، على سبيل المثال، كان تمثاله يُحمل خارج المعبد أثناء احتفالات تكريمه ويُطاف به عبر شوارع مدينة بابل حتى يرى جمالها ويستمتع بالهواء الطلق وأشعة الشمس.

كانت إنانا ربة قوية أخرى قُدِّست إلى حد بعيد كإلهة للحب والجنس والحرب، واعتنى كهنتها وكاهناتها بتمثلها ومعبدها بكل تفاني وإخلاص. تعتبر إنانا واحدة من أقدم الأمثلة لشخصية إله الموت والبعث الذي يختفي في العالم السفلي ثم يعود إلى الحياة ليجلب الخصوبة والوفرة إلى الأرض. كان لها شعبية هائلة وانتشرت عبادتها في جميع أنحاء العراق القديمة انطلاقاً من منطقة سومر في الجنوب. ثم تحولت فيما بعد إلى عشتار لدى الأكاديين (ثم الآشوريين)، وعشتروت لدى الفينيقيين، وسوسكا لدى الحيثيين-الحوريين، وارتبطت بأفروديت لدى اليونانيين، وإيزيس لدى المصريين، وفينوس لدى الرومانيين.

كانت المعابد مركز حياة المدينة طوال التاريخ العراقي القديم منذ الامبراطورية الأكادية (حوالي 2334-2150 قبل الميلاد) حتى الآشورية (حوالي 1813-612 قبل الميلاد) فصاعداً. وقد خدم المعبد وظائف متعددة: كان رجال الدين يصرفون الحبوب والبضائع الفائضة للفقراء، وينصحون المحتاجين، ويقدمون الخدمات الطبية، ويرعون الاحتفالات الكبرى تكريماً للآلهة. ورغم اهتمام الآلهة البالغ بالبشر في أثناء حياتهم الدنيا، كانت الحياة الآخرة في العراق القديمة عالماً سفلياً مخيفاً، يقع بين جبلين بعيدين، حيث كانت الأرواح تشرب الماء العفن من البرك وتأكل الوحل من أجل الخلود في ’أرض اللاعودة‘. وكانت هذه النظرة الكئيبة لدارهم الآخرة مختلفة بشكل ملحوظ عن نظرة المصريين وجيرانهم الفرس لدارهم الآخرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.