عطا درغام يكتب | من مفكرة عامل مصري في حفر قناة السويس

0 311

يعجز القلم عن وصف ما يدور هنا فى الكومبانية، من جر عشرات الآلاف من المصريين الشرفاء الذين تجرهم زبانية لا تعرف للرحمة طريقا، حتى أن قلوبهم كالحجارة، أو أشد قسوة، فى تحقيق مجد زائف لسادتهم من الفرنساوية على حساب دماء وأشلاء الجوعى والعطشى هنا فى الصحراء القاحلة التي ليس فيها سوى الموت والضياع والتشرد ، هذه السطور أخطها بدمائي المصرية الأصيلة التي ارتوت من نهر النيل ، فعلمتني الصبر والجلد على المحن والنكبات، وعلى تحمل غطرسة الترك وصلف الإنجليز، وقسوة الفرنساوية ، وكل باغ يتطلع إلى الظلم.
وكما سبق أن ذكرت آنفا عن عجز القلم، الذي يأبى إلا أن يكون مداده من دماء المصريين الذين اشتركوا فى حفر هذه القناة، لتكون شاهدة على مصرع الآلاف ما بين جوعي وعطشى وموتى بالطاعون، والكوليرا ، وضربات الشمس ، والتيفود، دون أدنى اعتبار لهؤلاء المساكين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل ….ز ولم نعرف هنا فى الكومبانية أسماء الأيام ، ولا السبت من الأحد، لأن الأيام تشابهت فيما نتعرض له كل يوم من ويلات المحن .
يبدأ يومنا بقيام الحـــــارس بالنــفخ فى البروجـــي ، ويســـتيقظ الجميع، ونذهب إلى الجحيم الذي نلقاه كل يوم ، ومن شاء سوء حظه أن يتأخر تنهال عليه الكرابيج من حيث لا يدرى، حتى يقوم المسكين ويذهب حيث لا يعود؛ دونما السماح لنا بالصلاة، أو حتى إزالة ما لحق بنا من آثار النوم….ونقسم إلى جماعات…….جماعات تقوم بالحفر بالفئوس التي تشق الأرض مرتطمة بالصخور والحجارة، وفريق آخر يقوم برفع ما نتج عن الحفر من رمال وصخور فى مقاطف من الخوص ؛ ليحملها الفريق الثالث ويبعدها إلى مكان آخر، ويا ويله من يتلكأ أو حتى يرفع ظهره، تنهال عليه كرابيج الزبانية الترك على أجسادنا العاريةالتى تشربت السواد من الشمس الحارقة التي لفحتها بأشعتها … وأمامها لا نستطيع أن نكتم صرخاتنا ؛ لأنها المتنفس الوحيد فى الشكوى عما يحدث لناهنا ، وكأننا غرباء فى بلادنا ، يتحكم فيها الأجانب، ويحصلون على الامتيازات لسحق هذا الشعب المسكين، الذي لا يساوى عندهم جناح بعوضة.
وفى هذا اليوم ساقت الحكومة أكثر من أربعة آلاف جندي ممن قاربوا إتمام خدمتهم العسكرية، للعمل فى حفر قناة السويس، ولما رأوا الحال السيئة التي نحن عليها ، رفضوا العمل، وحدثت فوضى واضطرابات ، وتركوا ميدان الحفر،فحاولنا الدخول وسطهم،كي ننجو من العذاب الذي نتعرض له كل يوم، لكننا فوجئنا بطلقات نارية فى الهواء أخافتنا ……… بعضنا تراجع ، وآخرون غامروا بحثا عن أمل فى النجاة من الموت الذي يلاحقهم، حتى ولو أصابتهم طلقة طائشة، فلن يخسروا شيئا ،لأنهم بالفعل موتى…….زوكنت ممن شاء سوء حظهم أن يتراجعوا ، وننال عقاب السادة المشرفين بكرابيجهم المحماة فى الزيت، ونزلت على ظهورنا من شدتها لم نشعر بها لأننا تعودنا عليها .
أسمعنا المشرف التركي ذو الكرش المنتفخ وصلة من الردح والشتائم مما يعف اللسان عن ذكره.وأصبح حالنا يرثى له.. ننتظر الموت والخلاص الذي لا بد منه إزاء هذا المصير التعس الذي نتعرض له هنا كل يوم…. وصرخ فينا التركي ذو الشارب الكث ، وعاقبنا بحرماننا من حصتنا اليوم من المياه ، وكتمت غيظي وسألت نفسي أية مياه يعنيها الأحمق ، انه تمر علينا أيام لا نذوق فيها طعم المياه، فيموت منا الكثير تحت وطأة العطش ومن أفلت من العطش ، وقع فيما هو أسوأ من الأوبئة الفتاكة التي لا ترحم، ومن أسعده حظه وهرب تاه فى الصحراء الشاسعة تهاجمه الذئاب والحيوانات المفترسة….وكنا ننتظر الجمال المحملة ببراميل المياه؛ لنرتوي حتى نقوى على العمل…؛ لكنها كانت تتأخر، وعندما تصل لا يتبقى لنا سوى القليل، لأن السادة الفرنساوية والأتراك كانوا يستأثرون بالنصيب الأوفر من المياه ، فنقع أمامهم من العطش، ورغم ذلك كانت قلوبهم لا ترحم وتنهال علينا الكرابيج حتى ونحن موتى، كأنهم آليون لا روح فيهم ، تعودوا على الضرب، لا فرق بين ميت وحى .
أشعر بالغيظ وأكتم صرخاتى من العطش وأنا أرى هذه القطط تسمنت على حسابنا وهى تشرب الماء وتحرمنا منه.. ويوزعون علينا الجراية ، وهى الأخرى لا تقل سوءا عن الأحوال المعيشية، وكان نصيب الفرد منا كسرة خبز لا تغنى ولا تسمن جوع ، فرغم قلتها كنا نلتهمها شاكرين الله تعالى أننا ما زلنا على قيد الحياة، فى الوقت الذي كانوا يأكلون فيه أشياء لم نرها من قبل ، وكنا نسترق السمع لمعرفة أسمائها، فعرفنا انها بسكويت، وجا توه ، وكعك ، وأشياء أخرى تمنينا أن نحظى بها ن لكنها الحياة …سادة يأكلون ويتنعمون ، وعبيد يجوعون ويحرمون….ماهذا الذي أراه……؟ إنه منظر فظيع جدا منظر تلك الجثث التي يحملونها ويقذفونها فى حفرة كبيرة ، منظر لن أنساه ما حييت ، وقد يحملونني أيضا عندما أقع من التعب أو الجوع أو التعرض لوباء الكوليرا أو الطاعون ….لقد انتشرت هذه الرائحة بسرعة رهيبة ، كنذير للعمال فى الحفر بأن هذا مصيرهم… !! أين العدالة … ؟ .. أين الأطباء ..؟ … أين الماء … أين الطعام .. ؟.. إنهم يستأثرون لأنفسهم بكل شيء ، ويبخلون علينا حتى من أبسط حقوقنا من الحرية .. !! .. كيف يسوقوننا إلى هذه البقعة النائية، مربوطين كالحيوانات.. تاركين أرضنا وزراعتنا، لتحقيق مجد هؤلاء السادة ونموت ضحايا هذا الظلم …. !! ونظل على هذه الحال حتى غروب شمس هذا اليوم، ونتنفس الصعداء لمرور هذا اليوم سريعا ، لكننا نفاجأ بالمشعل، ترفع وتملا المكان ،ويأمر لمهندسون الفرنساوية باستمرار العمل على ضوء المشاعل دونما اعتبار للتعب الذي حل بنا، والدماء التي سا لت، والعرق المتصبب من جباهنا، والعطشى الذين ماتوا، والجثث المتناثرة فى كل مكان.. !!! … أين الرحمة يا أهل الأرض…؟الرحمة يا أصحاب الأمجاد الزائفة والجيوب المنتفخة على أشلاء هؤلاء المصريين الذين ينتظرون الخلاص وتمنى الموت من حكام ظالمين ساقوهم إلى الموت بالسخرة والقوة…ووقعت من التعب والإعياء الشديد الذي حل بى ، وظننت أن أعينهم ستغفل عنى، لكن خاب ظني، وانهال التركي السمين بكرباجه دون رحمة ، وانا أصرخ صرخات تدوي فى الصحراء ، وتصعق زملائي من العمال ن وكلما هممت القيام أقع مرة أخرى ؛ حتى خارت قواي تماما ، وصرخ التركي السمين …اتركوا هذا الكلب يموت، وغدا نأتى بألف غيره…..حملونى ودفعوني لإحدى الخيام المنصوبة للنوم ، وطرحونى على الأرض ، وأنا أرتعش كاننى أصابني الوباء ن ولم يسأل عنى أحد، وانا أزحف متلفتا حولي كي أجد ما أشربه أ أو اقتات به، هيهات …لقد ساقونا إلى الجحيم….ولم تكد تمر دقائق؛حتى فوجئت بالجثث التي تلقى على واحدة بعد الأخرى، أجساد هدها التعب ويداعبها الموت ليخطفها ، ويمتلئ المكان بهذه القوى المتهالكة؛ والتي لا أعرف لها عددا ، والقاسم المشترك بيننا أنها متعبة وتصرخ من التعب والعطش، ولا حياة لمن تنادى …. وزحفت ما استطعت المرور من بين هذه الجثث حتى بوابة الخيمة لأسمع البروجي يعلن انتهاء العمل فى تمام الساعة الثانية عشرة مساء، والكل يجرى ليلحق مكانا ينام فيه ، ويشعر بالراحة ، ويحلم بالماء والطعام والحرية عسى أن يتحقق ذلك فى الحلم ، بعد أن تعذر الحصول عليه فى الواقع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.