ماهر عزيز بدروس يكتب | الأب -متي المسكين- بين التشويه والتكريم (1)

0 337

لقد تفتحت عيون جيلي على كتابات الأب “متي المسكين” بوصفها ملاذ الرصانة الفكرية في العرض الديني لأفكار اللاهوت والإيمان، وكان المثقفون منا يجدون ضالتهم في أسلوبه الذي يحترم عقل القارئ بنسق فكري يعتمد الكتابة الجادة، والتعبيرات غير المستهلكة، والاجتهاد الواضح في تقديم العقل، ولذلك أحبه طلائع الخدام والخادمات في جيلي، ونظروه معلمًا فكريًا لاهوتيًا وروحيًا جليلًا.
كان الأب “متي المسكين” قد نجح في تحويل دير “الأنبا مقار” ببرية شيهيت إلي قلعة للفكر الديني والريادة العقلية للروح والإيمان، واستطاع أن يؤسس مدرسة فكرية وبحثية متقدمة في قضايا الإيمان واللاهوت، وقد ترابط أعضاء هذه المدرسة ترابطًا متسقًا كما في هارموني متماسك لإبداع البحوث المعمقة، فتتابعت الكتب المرجعية الموثقة في الصدور لتشبع نهم المتعطشين إلي البحث العلمي اللاهوتي والديني الرصين، وراحت رفوف المكتبة القبطية تزخر بأعمال تمتاز بالجدة والعمق، بدءًا من “حياة الصلاة الأرثوذكسية” (1952)، ومرورًا “بالقديس أثناسيوس الرسولي” (1981)، وانتهاءً “بشرح الرسالة الأولي للقديس بطرس الرسول” (2004)، و”مع المسيح” (في أربعة مجلدات – 2005/2006).
كان الأب متى يوظف تلامذته النبهاء من الرهبان في تجهيز الترجمات والتوثيقات والمباحث اللازمة لإعداد هذه الكتب، التي يضع هو عليها في النهاية بصمته الفكرية المميزة في الصياغة اللفظية، والمنطق الكتابي، والرؤية الروحية، والإدراك اللاهوتي، والرسالة العقلية، والتصحيف والتبويب.
بين الإيمان والهرطقة: من أين عقروه؟ في جميع كتاباته كان الأب “متي المسكين” يحاول دائمًا أن يجدد في الصياغات الموروثة من الجيل الآبائي الأول، والتي لم يجرؤ على الخروج منها مفكر ديني أرثوذكسي حتي بدأ هو يكتب.
في كتابته كانت قدرته اللغوية، وثقافته الكتابية والعامة، رَاِئُدُهُ في التعبير الكتابي واللاهوتي، الذي عمد كذلك إلي التجديد فيه، لكنه في غمرة سعيه للتجديد التعبيري في الروحيات واللاهوتيات، وفي مطاوعته لرغبته العارمة في الإبداع الذي يكسر رتابة الإكليشيهات المحفوظة – التي فقدت جدتها وفاعليتها عبر الاستخدام المتواتر، وصارت تعبيرات مسكينة فارقتها الحياة – أقول في غمار محاولته أن يَبُثَّ أقوالًا جديدة لم يفسدها الترديد المتكرر، وأن يبتكر صياغات محدثة بكل نضارتها الأولي، فاته أن مساحة الإبداع في التعبير اللاهوتي محدودة جدًا، وأن سليقة الإبداع الأدبي لا يمكن أن تفعل فعلها في اللاهوت كما في الأدب الديني أو التأملات..
هنا سقطت منه تعبيرات لاهوتية غير دقيقة عديدة أخذوها عليه وعقروه بها.. فكان من أغرب الاتهامات التي وجهت إليه الاتهام بالهرطقة، الذي أراد مخالفوه ومبغضوه أن يلصقوه به، ليقضوا به على تاريخه الروحي واللاهوتي والرهباني كله، ويقتلوا به أثره الذي تركه في كتاباته لتجديد الفكر والوعي الكنسي، وهو التاريخ الذي لا يناقضه إلا مكابر، ولا ينقضه إلا جهول، ويحتفي به العالم كله الذي نقلتْ إليه الترجمةُ جُلّ الإنتاج الفكري، والروحي واللاهوتي، للأب “متي المسكين”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.