محمد فرج يكتب | نحو استراتيجية وطنية للتنوير

0 1,185

التنوير هو الشجاعة في استخدام العقل، وفقًا لنداء التنوير الأول: كن شجاعًا في استخدام عقلك، والمعنى هنا هو دعوة المواطن الفرد، والمواطنين عمومًا إلى أن يعملوا عقلهم في كل ما يواجهونه من ظواهر، أن يفكروا ويتفكروا، أي يستخدموا العقل في التفكير، وفي التدبير، وألا يفعلوا العكس.
فما هو العكس؟ العكس هو أننا بدلًا من التفكير العقلاني العلمي، بدلًا من التفكير بالمعلومات، والبحث عن الحقائق، بدلًا من التدبُّر فيما يقال وفيما يحدث، نفكر بعواطفنا الشخصية، أي نغلّب العواطف ونحب ونكره، ونردد ما يروق لنا، ونفكر بانحيازاتنا العائلية وتحيزاتنا القبلية والعرقية، أي نخضع العقل والتفكير لتحيزاتنا، ونفكر بانتماءاتنا العقائدية السياسية والدينية، ونفكر دون بحث أو تمحيص أو تدبر، أي نخضع العقل والتفكير للأفكار السائدة، للعادات والتقاليد الموروثة، ونخضع العقل للمعلومات العامة السائدة في شبكات التواصل الاجتماعي، حتى لو كانت خاطئة أو مجرد شائعات.
إذا كان التنوير هو الشجاعة في استخدام العقل، فإن عكسه هو الدعوة لتغييب العقل، وإذا كان معنى استخدام العقل هو التفكير العقلاني العلمي، فإن عكسه هو التفكير العشوائي، لذلك فإن الدعوة للتنوير هي دعوة للتفكير العقلاني العلمي، وهي دعوة لرفض التفكير العشوائي.
لكي نتدبر أهمية الدعوة إلى التنوير، دعونا نتدبر خطورة التفكير العشوائي السائد، التفكير العشوائي يخضع العقل للعواطف والانحيازات والتحيزات العائلية والقبلية والسياسية والعقائدية والدينية، ويخضع العقل لما هو موروث وسائد من عادات وتقاليد وخرافات ومعلومات خاطئة، لكن خطورة تلك التحيزات والموروثات و الخرافات والمعلومات الخاطئة تتضاعف وتتعقد حين يربطها البعض من القدماء والمحدثين بالدين، إذ يقدمها لنا هذا البعض باعتبارها الدين، أو باعتبارها القيم والأخلاق الحميدة النابعة من الدين، الأمر الذي يسهل عملية إخضاع عقول البسطاء لها، ويصعب عليهم التفريق بين كونها من الدين وكونها من أفكار البشر، من أفكار الفقهاء القدامى باعتبارهم بشر ونحن بشر مثلهم، ويحق لنا أن نعيد التفكير فيما تركوه من أفكار بشرية.
إذا أردنا أن ننتقل خطوة أخرى في التعرف على خطورة العشوائية والتفكير العشوائي، وأهمية وضرورة التنوير، نضيف أن العقل العشوائي السائد لكي يهيمن على الساحة الفكرية السياسية والثقافية، يعمل على خلط كل أمور الدنيا بالدين، فيخلط بين الدين والسياسة، والدين والعلم، والدين والاقتصاد، والدين والثقافة، والدين والأدب، والدين والفن، والدين والفكر الديني، ويتم هذا الخلط باسم الحفاظ على الدين، والحفاظ على الأخلاق، والحفاظ على تراث السلف الصالح، مع أن هذا الخلط خطر على كل من الدين والسياسة والعلم والثقافة والأخلاق والسلف الصالح، ذلك أن (الدين تسليم بالإيمان)، أما السياسة والعلم والاقتصاد والثقافة والفقه فهي أمور تتغير بتغير المجتمعات، وتتطور بتطور البشر، وتختلف باختلاف الزمان والمكان، وتخضع لقوانين التطور والتغير والتراكم الكمي والنوعي، وتخضع للخطأ والصواب، للاختلاف والحوار والنقاش والتفكير العقلي والعلمي والموافقة أو الرفض، وهي أمور لا تخضع لأي شكل من أشكال التقديس العقائدي أو الديني، ولا تخضع لمفاهيم الحلال والحرام، بل لمفهوم الخطأ والصواب، وتخضع للاختبار والبحث العلمي أو النقد الأدبي أو الفني.
لكن العقل العشوائي السائد لا يخلط بين الأمور فقط، بل يرفض كلَّ ما هو متقدم وعقلاني في التراث نفسه، فهو يرفض خطاب (أنتم أعلم بأمور دنياكم) أو (بشئون دنياكم) لأنه يريد أن يهيمن على كل أمور الدنيا باسم الدين، ويريد أن يعيد إنتاج أفكار القرون الوسطى حول الجماعات الدينية المقدسة، الجماعات التي تعتبر نفسها ظل الله على الأرض، أو التي تعتبر نفسها (الوسيط) بين الله والبشر، أو التي تحكم باسم الدين، ويتحول العقل العشوائي هنا إلى عقل عشوائي سلفيته تمتد القرون الوسطى.
العقل العشوائي لا يرفض التنوير بسبب رفضه (أي رفض التنوير) عمليات الخلط بين الدين والمجالات الحياتية المختلفة، العلم والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها من الأمور والعلوم فقط، بل يرفض التنوير لأنه يرفض التمييز بين المواطنين بسبب اختلاف الأصل الاجتماعي أو الجنس أو اللون أو العقيدة أو الدين، إن التنوير يدعو إلى المساواة والعدالة والمواطنة، ويدعو إلى الدولة الوطنية كدولة للقانون والمواطنة، دولة لكل مواطنيها، بغض النظر عن العقائد الدينية لمواطنيها، فالدين لله والوطن للجميع، لكن العقل العشوائي يرفض هذه المساواة بين المواطنين في وطنهم، ويميز بينهم بسبب انتماءاتهم العقائدية الدينية، ويتجلى عقلًا عشوائيًا طائفيًا، وهو عقل طائفي لأنه يميز بين المواطنين، ويرفض قيام الدولة الوطنية التي تقف على مسافة واحدة من المواطنين من أصحاب الديانات والعقائد المتنوعة والمتعددة.
لكن العقل العشوائي الطائفي يتحول سريعًا من الفكر إلى الممارسة، حيث يتطور فكره الطائفي سريعًا من رفض التنوير، إلى رفض دعوات التجديد، إلى التمييز، إلى رفض الآخر، إلى التكفير، إلى التطرف، إلى العنف والإرهاب، أي يتجلى العقل العشوائي الطائفي إلى عقلٍ إرهابي وجماعاتٍ إرهابية.
إن الإرهاب يبدأ تفكيرًا عشوائيًا، ويتجلى فكرًا تكفيريًا وطائفيًا، لذلك فإن بناء استراتيجية وطنية للتنوير، تصبح مسألة مُلحة.

* محمد فرج، الأمين العام المساعد لحزب التجمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.