د. أسامة السعيد يكتب | أمريكا .. “جمهورية موز”!!

0

هذا الوصف الغريب ليس من عندي، ولم يصدر عن أحد خصوم الولايات المتحدة، بل أعلنه أحد الساسة الأمريكيين البارزين، وهو رون ديسانتيس حاكم فلوريدا الجمهوري، في معرض تعليقه على مداهمة رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” مؤخرا لمقر إقامة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بفلوريدا.
واعتبر ديسانتيس إن “مداهمة منزل ترمب هو تصعيد آخر في تسليح الوكالات الفيدرالية ضد المعارضين السياسيين للنظام”، وتابع: “الآن النظام لديه 87 ألف عميل آخر لممارسة الاضطهاد ضد خصومه؟ هذه جمهورية الموز”.
الغريب أن الرئيس ترامب نفسه، وفي تصريحات لاحقة، استخدم نفس التعبير، ووصف بلاده بأنها تحولت إلى “جمهورية موز”!!
وجمهورية الموز هو مصطلح ساخر صاغه الأمريكيون أنفسهم واستخدموه على نطاق واسع في أدبياتهم السياسية والصحفية على مدى عقود طويلة للانتقاص من أو ازدراء دولة غير مستقرة سياسيا، وليس لها ثقل سياسي واقتصادي بين دول العالم، ويعتمد اقتصادها على عدد قليل من المنتجات كزراعة الموز مثلا، ومحكومة بمجموعة صغيرة ثرية وفاسدة.
ولا يزال هذا المصطلح مستخدما في الخطاب الأمريكي السياسي والإعلامي لوصف أغلبية دول العالم التي لا تدور في الفلك الأمريكي، وغالبا ما يستخدمه السياسيون والبرلمانيون والمفكرون الأمريكيون لوصف حكومات بعض البلدان في أمريكا الوسطى ومنطقة بحر الكاريبي، بل يتسع نطاق الاستخدام ليشير إلى دول أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا.
وقد صاغ المصطلح في بادئ الأمر الكاتب الأمريكي أوليفر هنري عام 1904 ، عندما أصدر مجموعة قصص قصيرة تجري أحداثتها في أمريكا الوسطى، واستخدم الوصف في الهجوم على الحكومات الدكتاتورية التي تسمح ببناء مستعمرات زراعية شاسعة على أراضيها مقابل المردود المالي، وتم اعتماده لاحقا ليوصف به أي نظام غير مستقر أو دكتاتوري، وبالأخص عندما تكون الانتخابات فيه مزورة أو فاسدة، ويكون قائدها خادماً لمصالح خارجية.
ماذا تغير إذن، لتتحول “قائدة العالم الحر”، و”رأس حربة الرأسمالية والديمقراطية في العالم”، إلى مجرد “جمهورية موز” كتلك الدول التي طالما سخرت منها الولايات المتحدة وتلاعبت بها وتدخلت في شئونها؟
الإجابة ببساطة أن الولايات المتحدة امتلكت من أدوات التأثير والبروباجاندا ما منحها الفرصة للتغطية على كل مثالب السياسة الأمريكية، بل وتبرير خطاياها بحق العالم، وخلق أجيال من “الدراويش” الذين لا يرون سوى الوجه البراق لـ”الحلم الأمريكي”.
صحيح أن الولايات المتحدة واحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم، لكنها ديمقراطية قاصرة على مواطنيها فقط، بينما تاريخيا كانت واشنطن أكبر داعم للديكتاتوريات في العالم، وتدخلت لتدبير انقلابات وصناعة مؤامرات ضد حكومات وطنية ومنتخبة ديمقراطيا، وطالما رفضت إرادة شعوب طامحة للحرية لمجرد أن ذلك الطموح لا يلبي المصالح الأمريكية الضيقة!
ولسنوات طويلة هيمن على صناعة القرار الأمريكي نخب لا تعبر سوى عن مصالح براجماتية محدودة، تحركها اللوبيات، وتوجهها شركات وول ستريت، وتتلاعب بها “كارتلات” المجمع الصناعي العسكري، لتمثل السياسة الأمريكية واحدة من أكبر تجارب النفاق العالمية، فتنتج الولايات المتحدة خطابا يتبنى شعارات كبرى مثل دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحماية الحريات، بينما تدير المؤسسات السيادية الأمريكية شبكات هائلة لتجارة المخدرات وإمداد الميلشيات المسلحة بالمال والعتاد (فضائحها في أمريكا اللاتينية مثالا)، وترعى وتدعم تنظيمات إرهابية لضرب خصومها وتبرير تدخلها في شئون غيرها (دعمها المبكر لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة)، كما تدير سجونا سرية لتعذيب من تقول أنه يعمل ضد مصالحها، وتمارسهذا التعذيب بنفسها أو عبر وكلاء (فضيحة سجن أبو غريب ومعتقل جوانتانامو مثالا)، وتطلق حملات ممنهجة للكذب لتبرير مغامراتها الخارجية (غزو أفغانستان والعراق).
أبعد كل هذا نستغرب أن يصف أحد الساسة الأمريكيين بلاده بأنها “جمهورية موز”، بينما الوصف الصحيح والواقعي هو أنها أكبر “إمبراطورية موز” في التاريخ!

د. أسامة السعيد، نائب رئيس تحرير جريدة الأهرام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.